إبراهيم الميرغني يكتب: كأس الوحيح
بقلم : إبراهيم الميرغني
من خداع النفس ظنك أن تلك الجماهير التي (مرقت)، فحققت ثورة ١٩ديسمبر العظيمة، هي مِلكٌ لك، دابةٌ تمتطيها متى تشاء، وتستدعيها وقتما تُرِيد، إن كنت حقا تفكر بتلك الطريقة، فارحم نفسك، فالجماهير ليست كتلة صماء، أو قطيع من الأنعام تقودها روح القطيع.
نعم.. هي قد تبدو لك كذلك في لحظات نادرة من التاريخ، ولكنها في الحقيقة تفعل ذلك بإرادتها، عندما تدفعها غريزة البقاء، تفعله بِوعيٍ منها عندما لا يكون هنالك سبيلٌ آخر، عندما تسد في وجهها كل دروب التغيير، عندما يصبح مجرد التفكير في خيارات بديلة شبه مستحيل، فتتوحد وترضى الانقياد، فتندفع كالأعاصير لتدمر كل ما يعترض طريقها.
وهي في ذروتها تلك، وعندما ينفتح الطريق فجأة، ويسفر عن امتداد لا متناهٍ، يتملكها الخوف، نعم الخوف من المجهول، الخوف حتى من ذاتها، ومن حدّاتها، وعندما تدرك أنها لا تملك القدرة على (الكبح)، وعندما تستشعر أن بعضًا منها بدأ ينهش من أحشائها، تأخذ فى أكل أبنائها وبناتها، فهي الطريقة الوحيدة لتهدى من خوفها، وتبطئ إندفاعها نحو ذلك المجهول، الذي كانت تتحاشاه قبل أن تحسم أمرها (وتَمْرُقْ).
وربما تعتريها وهي في حالتها تلك، جذبات وفورات مفاجئة، حتى تظنها قد انبعثت من جديد، ولكنها إندفاعات كتوابع الزلازل، كإرتداد البراكين، تزفر ما تبقى في جوفها من حرارة وضغط، ثم لن تلبس أن تهدأ وتخبو، وعندها تدرك فداحة ما خلفته من خراب، وأن من أكلتهم من أبناء وبنات، كانوا الأقرب والأصدق والأوفى والأوفر بذلًا وعطاءًا، ولكن صدقهم جعلهم مكشوفين وواضحين أكثر مما يجب، وقربهم جعلهم في متناول الجميع، (فلئن كنتَ كما أنتَ عبِقْ فاحترقْ!).
منهم من تقدم حين تراجعت الصفوف، ومن وقف عندما طغى الوهن وكلّت الهمم، ومن تماسك وقتما تفتتت العزائم، وتضعضعت الإرادة، من مضى منهم شهيدًا هو بلا شكٍّ أكرمهم، ولكنه أسعدهم حالًا، وأبقاهم سيرة، فلا يوجد من يُزايد على الشهداء، حتى الأوغاد تجدهم يختبئون خلف صور الشهداء، ويرددون أقوالهم ولكنهم فى الحقيقة يقتاتون من دمائهم، يلعقونها قبل كل صباح، ثم يخرجون على الناس وفيهم قبسٌ من دمِ الشهيد، كأنما علمهم السَّامِرِيُّ، أو سوّلت لهم أنفسهم أن ينصبوا للناس عجلًا صنمًا له خوار، وظنهم أن الجماهير تحتاج أن تقدس شيئًا ما، شيئًا محسوسًا وملموسًا، تتجسد فيه مُلهماتها عندما كانت ثورة، تحتاج هيكلًا معبدًا، تخلع عند عتباته العقل والوعي والإدراك والحكمة، وتدخله مغيبة مسلوبة الإرادة والقدرة، تدخل لتجثوا لتغني أو تُصلي، لكن فقط عندما يشاء السَّامِرِيون! .
ولكنهم واهمون..
رُبَّ من ينهلُ من بحرِ الغُوايات ظَمِي
والذي يملكُ عينينَ ولا لُبّ عمي
والذي تسحرهُ الدنيا ولم يدرِ المصير أبلهٌ
يمرحُ في القيدِ وفي الحُلمِ يسير
ريثما توقظه السقطةُ في القاعِ ولا يعرفُ أيْنا