اتفاق جوبا.. شوكة في خاصرة المرحلة الانتقالية

تقرير – حسام الدين كرنديس

 

في خضم حرب طاحنة مدعومة و ممولة دوليا، وتدهور اقتصادي شامل، يطفو على السطح ملف (اتفاق جوبا للسلام) الذي وقع في أكتوبر 2020، كأحد العوامل التي تعيق الانتقال إلى مرحلة وطنية جديدة، فالاتفاق الذي صمم في سياق مختلف تماما، لم يعد صالحا للمرحلة الحالية، بعد أن تجاوزته الوقائع الميدانية والسياسية، خصوصا عقب انخراط بعض الحركات الموقعة عليه في القتال إلى جانب المليشيا المتمردة، بينما اختار البعض الآخر الصمت والحياد في أخطر لحظة تمر بها البلاد.

 

ما بعد جوبا… وطن يئن تحت الضغوط

 

نصوص اتفاق جوبا التي كانت تستهدف تحقيق السلام عبر مسارات إقليمية شملت دارفور، جنوب كردفان، النيل الأزرق، الشرق، الشمال، والوسط، تحولت عمليا إلى منصات لتقاسم السلطة، أكثر من كونها أدوات لتغيير حقيقي، فمعظم البنود المتعلقة بترتيبات الدمج والتسريح، وتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ظلت حبرا على ورق.

وبدلا من تحقيق السلام، وجد السودانيون أنفسهم أمام مشهد جديد قيادات مسلحة داخل أجهزة الدولة، ثم لاحقا، عناصر من ذات الحركات تنضم إلى التمرد، في مشهد عبثي يهدد مبدأ وحدة السلاح والسيادة.

 

ظروف لا تحتمل المحاصصات

 

السودان اليوم يعيش أسوأ لحظاته في تاريخه الحديث، حرب واسعة النطاق، ملايين النازحين، غياب المؤسسات، وانهيار البنية التحتية، وفي ظل هذه الظروف الاستثنائية، لم تعد هناك مساحة للمجاملات أو المحاصصات السياسية التي دمرت حتى الأداء التنفيذي، وأفرغت مؤسسات الدولة من معناها، المرحلة الحالية تتطلب حكومة وطنية مهنية غير حزبية، تضع المصلحة القومية فوق كل اعتبار.

 

اتفاق جوبا ليس تمثيلا للتهميش الحقيقي

 

من المهم هنا تصحيح مغالطة منتشرة حول ( التهميش ) بوصفه حالة مقتصرة على مناطق بعينها. في الواقع، أغلب الريف السوداني يعاني من مشكلات متشابهة : نقص خدمات الصحة والتعليم، غياب شبكات الطرق والمياه والكهرباء، وتدهور مستويات المعيشة هذه المعاناة لا تقتصر على دارفور أو النيل الأزرق أو كردفان، بل تشمل الشرق، البطانة، النيل الأبيض، الشمالية، ونهر النيل و الجزيرة. لذلك فإن استخدام مصطلح (التهميش) كأداة للضغط السياسي لا يعبر بدقة عن واقع أغلبية السودانيين، بل يرسخ لخطاب مناطقي غير واقعي.

 

تكليف كامل إدريس… محاولة للخروج من النفق

 

في ظل هذا المشهد المعقد، كلف مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول عبد الفتاح البرهان الدكتور كامل إدريس، الخبير الدولي المعروف، بتشكيل حكومة جديدة، مع منحه حرية اختيار فريقه الوزاري بعيدا عن المحاصصات الحزبية والحسابات الضيقة. إدريس، الذي يحظى بسجل ناصع في الإدارة الدولية، مطالب اليوم ببناء حكومة استثنائية في ظرف استثنائي، تنتشل البلاد من حالة الانهيار.

لكن طريقه لن يكون سهلا، فبعض القيادات التي جاءت عبر اتفاق جوبا لا تزال تتشبث بمواقعها، وعلى رأسهم وزير المالية د. جبريل إبراهيم، الذي يدير واحدة من أكثر الوزارات حساسية في وقت الحرب، ويرفض بصورة او اخرى مغادرة منصبه رغم تردي الأوضاع المالية وغياب الشفافية. استمرار مثل هذه العقبات يهدد مسار الإصلاح، ويضع عراقيل حقيقية أمام الحكومة المقبلة.

 

اخر الكلام : إسقاط جوبا أو إسقاط الدولة ؟

 

الاتفاقات لا تخلد إذا تجاوزها الواقع واتفاق جوبا، رغم نواياه المعلنة، أصبح عبئا على الوطن، لا وسيلة لإنقاذه، المرحلة الحالية تتطلب قيادة سياسية تضع يدها على الجرح، وتعترف بأن ما يصلح لمرحلة ما بعد الثورة لا يصلح لمرحلة ما بعد الحرب. والحقيقة المؤلمة أن مواصلة العمل ببنود اتفاق جوبا هو استمرار للشلل السياسي والإداري، و تكرار لأخطاء الماضي.

على السودان أن يخرج من دوامة الاتفاقات التي تبنى على المجاملة والمواقع، نحو مشروع وطني حقيقي… مشروع لا يستثني أحدا، لكنه لا يكافئ أحدا على حساب الوطن.

 

لكن تبقى الأسئلة الكبرى معلقة في عنق المرحلة :

 

هل يتخذ كامل إدريس قراره ويفصل وزير المالية و يسقطه من حساباته، أم تتدخل جهات نافذة للتأثير عليه و تمييعه كما فعلت بغيره؟

هل يعوض جبريل بمنصب آخر ضمن صفقة سياسية جديدة ؟ وهل يعيد البرهان إنتاج ذات السياسات التي اتهم بها النظام السابق في استرضاء الحركات (المهمشة) بمناصب شكلية ؟

وهل فعلا سيترك كامل إدريس ليقرر بحرية، أم سيكون القرار في النهاية مرتهنا بموافقة القائد العام نفسه ؟

 

المرحلة القادمة ستكشف إن كنا فعلا مقبلين على حكومة وطنية، أم أننا نعيد تدوير ذات العبث بأسماء مختلفة