رقيص الرقبة بين الفخر والاشتباه : حين يتحول التراث إلى شبهة مجتمعية
تقرير – حسام الدين كرنديس
في مشهد ثقافي مأزوم، تتقاطع التقاليد مع التحولات الاجتماعية بشكل يثير الكثير من التساؤلات حول مصير بعض الموروثات الشعبية في السودان. رقيص الرقبة، الرقصة التي ارتبطت منذ قرون بالشجاعة والقوة والفخر القبلي، أصبحت اليوم موضع شك وريبة، بعد أن تحولت إلى أداء يوصف من البعض بـ(الناعم)، المرتبط بالأنوثة، والموحي – في نظر شريحة واسعة من المجتمع – بالميول غير السوية لدى بعض الذكور الشباب.
فكيف تحولت رقصة كانت تعبر عن الرجولة، إلى رمز للاسترخاء الحسي والاشتباه في الهوية؟ وهل ما يزال للمجتمع القدرة على التمييز بين التقاليد الأصيلة والانحرافات السلوكية في استعراضها؟
رقصة القبيلة وطقوس الفخر
ينحدر رقيص الرقبة من عمق التقاليد البدوية في السودان، خاصة في مناطق كردفان ودارفور والنيل الأبيض، وارتبط منذ القدم بمناسبات الفروسية، المصارعة، استقبال الوفود، ومراسم الزواج. كان أداء الرقصة مقتصرا على الرجال، رمزا للفخر بالانتماء القبلي، والقدرة البدنية، وعنوانا للهيبة الاجتماعية.
من رقصة الرجولة إلى ليونة العرض
في السنوات الأخيرة، ومع تصاعد تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، بدأ رقيص الرقبة يظهر في فيديوهات لشباب يرتدون بناطلين ضيقة، جلابيب تلتصق بالجسد، ألوان لامعة وخامات أنثوية، ويؤدون الرقصة بتحريك الخصر، المؤخرة، والكتفين بطريقة تحمل في نظر البعض إيحاءات أنثوية واضحة، ما دفع الكثيرين لتصنيفه خارج إطار الرجولة التقليدية.
رأي المجتمع… بصوت الناس
في محاولة لرصد النبض الشعبي، تم جمع عدد من التعليقات من منصات مثل فيسبوك وتيك توك حول رقص الشباب للرقبة:
يقول خالد بابكر (من كوستي) في تعليق غاضب:
(يا جماعة ده ما رقصة رجالة… ده رقصة بنات ساي، أنا لو شفت زول بيهز رقبته وخصرو كدا، ما بقدر أتعامل معاه كراجل.)
وكتبت آمنة صديق (من نيالا):
(بصراحة أنا بقيت ما بقدر أشوف الفيديوهات دي… الولد بيهز في جسمه أكتر من البنت، دا ما تراث دا استعراض فاضح.)
فيما علق مجتبى عمر (من أم درمان) ساخرا:
(الناس البيعملو كدا قايلين نفسهم بعبروا عن تراث، لكن الحقيقة إنهم بيقولو لينا بلغة الجسد: أنا مشبوه، حتى لو هم ما قصدوا.)
أما نصر الدين مبارك (من الأبيض) فكتب بحدة:
(دي رقصة للرجالة زمان، لكن حسه بقت دليل على أنو الزول مائع، وعايز الناس تشوفو عشان حاجة تانية غير الرقصة.)
بين الأنوثة والمثلية… الخط الفاصل يتلاشى
في الوعي الجمعي السوداني اليوم، لم يعد رقص الرقبة محصوا في الجدل بين التقليد والحداثة، بل دخل في منطقة رمادية يتقاطع فيها الأداء مع التصورات المجتمعية عن الميول الجنسية والهوية الجندرية، ينظر اليوم إلى كثير من الشباب الذين يرقصون بهذه الطريقة ، خاصة حين تكون الرقصة مصحوبة بلبس لافت، على أنهم (شاذون)، حتى وإن لم يصرحوا بذلك.
والغريب أن بعضهم يتعمد إثارة الشكوك، وكأنهم يختبرون المجتمع، أو يبحثون عن (الفن البصري) كما يسمونه، حيث تصبح الرقصة مجرد أداة لجذب الأنظار، لا تعبيرا عن موروث أصيل.
هل أصبحت الرقبة رقصة نسائية؟
المفارقة الكبرى أن المجتمع اليوم صار يرى رقص الرقبة كرقصة أنثوية أكثر من كونها رجولية، ويعزى ذلك إلى طبيعة الحركات نفسها التي تحتاج إلى ليونة جسدية، تمايل، ولباس يظهر تفاصيل الجسد، وهي عناصر كانت محصورة في الأداء النسائي التقليدي.
النتيجة ؟ أصبح أداء الشباب لهذه الرقصة يقابل باستهجان واضح، ويحمل معاني جنسية حتى دون وجود نية لذلك. في المقابل، تؤدى الرقصة من قبل الفتيات في الأعراس دون اعتراض يذكر، وكأنها أصبحت بحكم الصورة ملكا للمرأة لا للرجل.
خطاب الجسد : الرقص بوصفه إعلانا بصريا
عبر الرقص، يرسل الجسد رسائل غير منطوقة. ومع أداء الرقبة بالشكل الحالي، يتحول الجسد إلى وسيلة إعلان ضمني: (أنا مختلف… أنظر إلي)، أو حتى (أنا متاح) كما يفهم البعض. ويثير هذا الخطاب الغضب لدى تيارات واسعة من السودانيين، الذين يرون في هذا الأداء تهديد للرجولة، وإهانة للهوية الذكورية.
هل يمكن استعادة الرقصة؟
السؤال المطروح الآن: هل فقدت رقصة الرقبة من قاموس الرجولة؟ أم أن هناك أملا في استعادتها في إطارها التراثي؟ الجواب رهن بإرادة المجتمع، والجهات الثقافية، والوعي العام، خاصة في ظل التأثير الكاسح للميديا.
بين الفخر والريبة… الجسد لا يكذب
بين ماض مجيد كانت فيه الرقبة رمزا للفخر، وحاضر باتت فيه رمزا للريبة والميوعة، تاهت المعاني، وتشوه الأداء، رقيص الرقبة في السودان اليوم لا يمثل فقط تحولا ثقافيا، بل يعكس أزمة أعمق : حين يفقد الجسد انتماءه لمعانيه الأصيلة، يصبح أداة للغواية لا للهوية، ويجد نفسه شاء أم أبى في مرمى التهم والإسقاطات، من المجتمع نفسه الذي صنع التراث.