فوضى التمثيل.. بشيل كورتي .. سلاح لإثبات النفوذ
بقلم – حسام الدين كرنديس
في شوارع الطفولة حين كنا نلهو بكرة القدم، لم يكن صاحب المهارة هو الأقوى، بل كان صاحب الكرة. هو من يختار فريقه أولا، يعلن عن ضربة الجزاء أو الخطأ، يغير القواعد كما يشاء، ويحتكر حق تقرير الفوز والخسارة. وإن اعترض أحد، جاءه الرد الحاسم : (بشيل كورتي).
اليوم، يبدو أن تلك القاعدة الطفولية انتقلت إلى واقع السياسة السودانية، لكن على نحو أكثر فوضوية وخطورة. لم تعد كرة الحي مجرد لهو، بل تحولت إلى رمزية للنفوذ غير المنضبط، للتمثيل الخارج عن مؤسسات الدولة، وللعب في ساحات السيادة دون وعي أو مساءلة
يعاني السودان من فوضى حقيقية في تمثيل الدولة، حيث يمارس عدد من المسؤولين، وقادة الحركات، والزعماء الأهليين والدينيين، دورا دبلوماسيا خارج أطر القانون والدستور. يسافرون دون تنسيق مع وزارة الخارجية، يقابلون سفراء ووزراء ومسؤولين أجانب، ويعقدون صفقات واتفاقات خارج نطاق مهامهم، بل في أحيان كثيرة دون علم الحكومة ذاتها.
بات كل من امتلك (الكرة) سواء سلطة سلاح أو خطاب دعم للجيش أو حتى لقب اجتماعي أو ديني يعتقد أن من حقه تمثيل السودان في المحافل، وكأن السيادة ملك خاص، لا دولة لها ولا وزارة خارجية تضبط مساراتها.
وحين يسأل هؤلاء، تتكرر الإجابات الجاهزة : (نحن من قاتلنا)، (نحن أصحاب حق في اتفاق جوبا)، (دفعنا الدماء)، وكأن ذلك صك براءة مفتوح للعبث بعلاقات السودان الخارجية أو تجاوز المؤسسات الرسمية للدولة.
ولكن، هل من قاتل مع الجيش يكتسب حق التمثيل الخارجي؟ هل أصبح دعم القوات المسلحة عملا مشروطا بمناصب ومكاسب؟ وهل تحولت المناصب من تكليف مؤسسي إلى تشريف شخصي؟
ولم تقتصر هذه الفوضى على قادة الحركات المسلحة فحسب، بل امتدت إلى الزعماء الأهليين والنظار ومشايخ الطرق الصوفية، الذين صاروا يعقدون اجتماعات مع بعثات أجنبية و ينسقون مع سفارات دون أدنى التزام بالبروتوكول السيادي.
هذا الانفلات يمثل خطرا مباشرا على صورة السودان في الخارج، ويبعث برسائل مشوشة للعالم عن غياب المركز والقرار المؤسسي. وهو أيضا عبث بمفهوم السيادة، وتفتيت لسلطة الدولة التي يفترض أن تكون الممثل الوحيد أمام المجتمع الدولي.
آخر الكلام
ما يحدث ليس مجرد تجاوز، بل تهديد مباشر لهيبة الدولة. لابد من إعادة ضبط إيقاع السلطة والسيادة عبر تشريعات واضحة، ومحاسبة صارمة لكل من يتعدى حدوده الوظيفية حتى لو كلف ذلك مغادرته هو و كرته .
وزارة الخارجية وحدها هي المخولة بإدارة علاقات السودان الدولية، وأي نشاط خارج هذا الإطار يجب أن يجرم لا أن يبرر.
(بشيل كورتي) ليست سياسة دولة، بل سلوك طفل لم يدرك أن للعب حدودا، و للسيادة حرمة لا يجوز العبث بها.
السودان اليوم أحوج ما يكون لدولة قوية بهيبة مؤسسات، لا مجموعات متناثرة تمارس التمثيل حسب الأهواء والمصالح.