الأديب الجزائري عزالدين ميهوبي: هارُون الذي ضاع منّي في الخُرطُوم

ينشر موقع اوبن سودان أدناه مقالا للأديب وزير الثقافة السابق في الجزائر عز الدين ميهوبي عن ذكريات زيارته للسودان في 2005. يمكنكم مطالعة تفاصيل السيرة الذاتية للأديب ميهوبي من هذا الرابط

هارُون الذي ضاع منّي في الخُرطُوم..
كتب: عزالدين ميهوبي
يشدّني الحنينُ أحيانًا إلى أحداث عشتها أو أماكن زُرتها أو أناسٍ تعرّفتَ عليهم، فتستعيد في كل مرّة تلك الوقائع، ورحلتي إلى السودان في 2005 تُعد من أجمل الذكريات التي تستدعي في كل مرّة استحضارها، ورواية بعض فصولها للآخرين. وسببُ الرّحلة هو المشاركة في اجتماعِ المكتب الدّائم للاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب، وكنتُ يومها رئيسًا لهذا الاتحاد، وتزامنَ ذلك مع افتتاح فعاليات الخرطوم عاصمة الثّقافة العربيّة.
اعتقدت أول الأمر أنّه يمكننا أن نجلس في أيّ مقعد شئنا، كما هو الحال في خطوط الطّيران الجزائرية، لكنني رأيتُ مسافري الخطوط المصرية وهم يبحثون عن مقاعدهم حسب بطاقة السفر، فكان حظ ّالكاتب سعيد بن زرقة رفيقي في رحلة السودان مقعدا في الصّفوف الأولى بينما رمَى بي الحظ في مقعد على الجناح الأيسر من الطائرة وبجانبي جلس مواطن مصري بلباس شعبيٍّ، لم يتحدث طُول الرحلة، وفهمتُ منه أنه لا يرغب في ذلك بسببِ منع التّدخين، في حين أنه من فئة الذين يتسبّبون في تلويث البيئة والرّئتين. كان بين الفينة والأخرَى يسألني “وصلنا الخرطوم؟”، فأجيبه: “لم نصل بعد..”، وقبل الوُصول بحوالي نصف ساعة سُلمتْ لنا استماراتُ الدّخول، فطلب مني أن أملأ استمارته، ورحتُ أسأله عن الجهة التي يقصدها فقال “وانا إيش اللي عرفني. آهي شركة إسمنت وخلاص. وما اعرفش فين مقرّها”.. كان اسمه عبد الفتاح والباقي لا أذكره..
كانت الساعة تشيرُ إلى الخامسة صباحًا عندما حطت الطّائرة بمطار الخرطوم الدولي من يوم الأربعاء 5 يناير2005. دخلتُ مع الجميع، وكانت الصالة مفتوحة كأنها ملعب للكرة، أيْ لا توجد عوازل أو جدران، واعتقدنا أننا سنجدُ من يستقبلنا، لكن يبدو أنهم انتظرُونا فلما وصلَ وفدُ أدباءِ أحدِ البلدان العربية أخذُوه إلى الفندق ولم يبق أيّ واحدٍ من المنظمين، فسألنا بعض موظفي المطار فلم يعطونا جوابا ونصحُونا بأن نستأجرَ سيارة ونذهب للفندق أفضل من الانتظار الطويل الذي ربّما لن يسفر عن شيء. حاولتُ الاتصال بهاتفي المحمُول لكنه استنفذ كل طاقته، فطلبتُ من سعيد هاتفه، ولكن لفطنة الرّجل قام بشحنِه في حقيبة سفره، ولما فتحها وجد “العوض على الله.. وعليكم السّلام”، فرُحتُ أضحك للمقلب الذي أوقع نفسه فيه، ولطيبتِه قال لي “هي زكاةُ نفس”.
استأجرنا سيارةً، وانتقلنا إلى فندق “قصر الصداقة” الكائن بالخرطوم بحري، وهناك وجدنا الأمور جاهزة، حيث نمنا ساعتين أو ثلاثا، وعند الصّباح فوجئ المنظمُون بوجودنا في الفندق، فاعتذرُوا بطيبة كبيرة عن الذي حدث.
بدأتِ الوفود الثقافية العربية تصلُ للمشاركة في فعاليات الخرطوم عاصمة للثقافة العربية 2005، وكانت أولى النّدوات تلك التي نظمتها وزارة الثقافة مع الاتحاد العام للفنانين العرب الذي يرأسه الفنان السوداني المعرُوف علي مهدي نوري صاحب الشوارب الكبيرة والقلب الطيب والرّوح المرحة، تحت عنوان “حوار الثقافات العربية والإفريقية” وقد ذكر لنا بعض المشاركين، ومن بينهم سيد راضي وفردوس عبد الحميد، أنّ اليوم الأول شهدَ احتجاجًا من أهل السّودان الجنوبيين الذين رفضُوا أن تكون الخرطوم عاصمة للثقافة العربية، وقالوا إما أن تضيفوا لها “والإفريقية” أو تبقى يتيمة دون تحديد أيّ ثقافة فيقال “الخرطوم عاصمة الثقافة”، وهذي أولى ردُود الفعل التي صدرت من بعض الأوساط التي أرادت تطبيقَ اتفاق نيفاشا للسّلام قبل ثلاثة أيام من توقيعه، أي بأثرٍ مسبُوق لا رجعي (..) وتواصلت الفعاليات بتنظيم الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب ندوة حول “القصة القصيرة في الوطن العربي”..
كانت الندوات تتم في قاعة الصداقة التي بناها الصينيُون وأهدوها لدولة السّودان تعبيرا عن عُمق العلاقات التي تربط بين البلدين الأكبر في آسيا وإفريقيا.. والحقيقة أنّ المسَافة بين فندق الصداقة وقاعة الصداقة لا يمكن قطعُها في أقل من ساعةٍ في موكبِ السيارات الذي كان يقودُه مُوسى الشرطيّ البهلوان الذي يقوم بحركات فيها من المُتعة الكثير وذلك بفتح ثغراتٍ بين صفوف السيارات التي تتجاوز أحيانا عشرَ كيلومترات بسببِ غلق الجسرين اللذين يربطان الخرطوم بحري بأم درمان والخرطوم العادي وذلك للصيانة، كما قيل لنا، وأُبقي على جسرٍ حديدي واحدٍ للمرُور فوق وادي النيل، حيث ملتقى النيلين الأبيض والأزرق رمز الخصب والنّماء..
مُوسى هذا، أطلقَ عليه ضيوفُ الخرطوم “عفريت الإسفلت” بل إنّ بعضهم كان يتسابق للظفر بمقعدٍ في السيارة الأولى للموكبِ للاستمتاع بمشاهدَ لا تُرى إلا في الأفلام البوليسية المثيرة، وكان عند وُصُولنا يقفُ وينزعُ نظارته السّوداء ويرسل ضحكات هادئة شعورًا منه بأداء مهمته التي تصل أحيانا إلى الخطر، وقد أشاد به كل المشاركين ولو كان الأمر بيدِهم لمنحُوه وسام استحقاق وتقدير.
انتهت أشغال ندوة حوار الثقافات العربية والإفريقية بتقديم جملة من التوصيات التي تدعو إلى ضرورة العمل من أجل إقامة جسُورٍ بين هاتين الثقافتين لما لهما من رصيدٍ ثقافي وفكريّ مُشترك باعتبار أنّ أزيد من 35% من سكان القارة يتكلمُون العربية، فضلا عن أن انتشارها في بلدان جنوب الساحل كنيجيريا وتشاد والكاميرون ومالي تولّد عنه وُجود نتاج فكري وأدبي كبير كما أنّ اللغات الإفريقية القديمة شكلت بالنسبة لها اللغة العربية حاملا مُهِمًا، وقد خلصت هذه الندوة إلى أزيد من خمسين توصية تقدّم بها المشاركون محمّلين الأستاذ عبد الباسط عبد الماجد وزير الثقافة في السودان مسؤولية تنفيذها، والحقيقة أنني أشفقتُ على هذا الرجل الطيب جدا والمثقف جدا من أن يجعل همّه تنفيذ أحلام المشاركين في هذه الندوة، فتدخلت وقلت بلسان صريح “ما جدوى خمسين توصية؟ ألا تكفي توصيتان أو ثلاث يمكن تجسيدها على أن نتباهى بالكمّ من التوصيات والمقترحات ونحن ندركُ أن مآلها رفّ النّسيان كما هو حال البلدان العربية التي تتفنن في استعراض ما لا يُمكنُها تحقيقه.”، وكنت أعرفُ أن ما قلته لا يعجب بعض المُشاركينَ، مثلما كنت مدركًا أن ما قلته أثلج صدورَ البعض الآخر وخاصة أحد أدباء السودان واسمه “قديت” وهو من قبائل النّوير الجنوبية، إذ تقدم نحوي وقال لي: “أنا معك فيما قلت”، ثم راح يحدثني عن أحلامهِ في سودان ما بعد السلام، ثم طلب مني أن أحدّد له وقتًا في الفندق ليطرح علي أفكارَه في مدينته “جوبا”، وجاءني مساءَ السبت وشرع يحدّثني عن بعض الأشياء التي يشعر أنها تصلح للاستثمار في بلدِ ما بعد الحرب، فقال لي: “ما رأيك في قناة تلفزيونية؟”، قلت له “وهل في جيبك 30 مليون دولار؟”، فأغلق ملفّ التلفزيون وقال لي: “بم تنصحني؟” قلت له: “إن كنت فعلا تملك الرغبة ولديك ما يكفي من المال فأنصحك بأن تقيم مدرسة مُتخصصة في تعليم استخدام الكومبيوتر؟ أو إنشاء وكالة للسياحة والسفر؟ أو بناء فندق أو منتجع سياحي؟ أو الخوض في الاستيراد والتصدير.”.
كان قديتْ يكتبُ كل كلمة أتفوّه بها وكأنني خبيرٌ أو مستشار دولي في مجال الاستثمار، ولستُ شاعرًا، وقبل أن نفترقَ سألتُه: “هل أنت مع السّلام ومع وحدة السودان؟” قال لي ضاحكا: “وهل نملك بديلا غير ذلك”، وهو يهمُّ بالخروج قال لي: “سنعمل على إنشاءِ اتحادٍ للكتاب والأدباء في جنوب السودان، وسندعُوك لإلقاء مُحاضرة”. قلت له: ” إذا نجحت السياسة في تقسيم السّودان، فلا يجبُ أن تنشئوا اتحاد منفصلاً، أنتم من يعطي الوحدة معناها”. فقال وهو يطلق ضحكة “سيكون ذلك، عندما يرحلُ السّاسةُ الذين مزّقُوا البلد”.
في مساء اليوم الأول من افتتاح نشاطات الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب تقرر تنظيم أمسية شعرية في جامعة القرآن شارك فيها شعراء عرب وآخرون من السودان..
قام بتنشيط الأمسية اللواء الشاعر أبو قرون الذي قرأ شيئا من شعره قبل أن يكون أول من يصعد المنصة الشاعر الكبير سليمان العيسى الذي يزور السودان لأول مرة وقد جاوز الثانية والثمانين.. فقرأ نصا جميلا فيه من النثر ما ينسي أنه شاعر وفيه من الشعر ما يجعل الناس يبتهجون أمام ناثر بارع، ثم قرأ الشاعر الفلسطيني المتوكل طه والأردني سعد الدين شاهين والبحريني ابراهيم بوهندي والفريق الرّكن عمر قدور من السودان وشاعر الكويت خالد الشايجي وإبراهيم علاّن من الإمارات والشاعرتان هيفاء وآية من السودان.. والشاعر الوزير صديق مجتبى محمد الأمين من السودان وهو وزير الدولة للثقافة في السّودان، ولسُوء حظي أنني كنتُ آخر من يقرأ والسبب أن اللواء أبو قرُون نسي اسمي وكنت ثالث من يقرأ، وتحتَ إلحاح الحاضرين صعدتُ المنبر وقلت “سأقرأ شيئا لرجلٍ اسمُه هارون، وهو مواطن من السودان تعرفتُ عليه عن طريق المُراسلة في منتصف السبعينيات، حين كانت المراسلة أسلوبًا محببا لدى الكثيرين في زمن كانت الرّسالة أفضل من الأنترنيت والبريد الإلكتروني (..) وتوقفَ اتصالنا في نهاية السبعينيات.عندما تقرر ذهابي إلى الخرطوم تذكرتُ هارون، وهذا ما بقي من اسمه الكامل وجملة واحدة ما زلت أحتفظ بها قالها لي في أول رسالة قبل ثلاثين سنة “اخترتك من بين الآلاف فاخترني من بين الملايين”. أجيء الخرطوم اليوم وعندي سؤالٌ واحدٌ يشغلني: أين هارون، أما زال حيا.. ماذا لو التقيتُه في الشارع هل يعرفني وهل أعرفه؟ وهكذا. قرأتُ النص الشعري الصغير.. ولم أكن أتصور أنه سينال هذا الحب والإعجاب من الحاضرين وطلب مني أن أقرأه في مناسباتٍ أخرى. والنص هو كالتالي:
ليتني ألقاهُ من بعد ثلاثين سنهْ
ربما ألمحُ طفلاً
أو بقايا سوسنهْ
ربما يأتي كطير سرمديّ من بقايا الأمكنهْ
ليتني أعرفُ من يعرفُ هارُونَ
فأهديهِ تحياتي
وبعضًا من حكاياتي
وأحلامي الحزينهْ
ربما ألمحُه في شارع النّيل وحيدا
أو على جسرِ المدينهْ
ربما يعرفنُي..
يسرع نحوي مثل طفلٍ تائه
أو مطرٍ يغسلُ وجه الأرضِ من إثْمِ
المساءاتِ اللعينه
ربّما أعرفهُ
أجري كطفل يختفِي
أصرخُ يا هارون عُدْ..
أنا ها جئتُكَ..
لا أعرفُ عنوانا..
ولا أملكُ في الوادي سفينهْ
ليتني ألقاكَ يا هارون
في جيبي بقاياكَ
وبعضٌ من رسَالهْ
قلتَ لي قبل ثلاثين:
ومن يدري صديقي..
ربما تجمعنا الأقدار يومًا في عُجالهْ
وأذكر أنّ الفريق الرّكن الشاعر عمر قدّور، وهو ضابط متقاعد في جهاز الشرطة، تقدم نحوي في ختام الأمسية وقال لي ضاحكا: “اعطني مواصفات هارُون وسأجيئكَ به حيا بلحمِه وشحمه قبل أن تغادر الخرطوم”.
وللإشارة فإن اتحاد الأدباء والكتاب في السّودان تمّ انتخابُه قبل أسبُوعٍ من بدء فعاليات الخرطوم الثقافية، وقد اختيرَ على رأسه البروفيسور الرّاحل عوْن الشريف قاسم أحد المختصين في الثقافة السّودانية العريقة، ويضم الاتحاد عددا من قادة الجيش الأدباء المتقاعدين، الأمر الذي جعل أحد الإعلاميين يقول ضاحكا “كأننا أمام اتحاد كتاب مسلح”، غير أننا أعجبنا كثيرا لكون الشّعر ليس حكرًا على أصحاب البدلات الزّاهية، إنما يقرضهُ أصحاب القبعات الخضراء والأحذيّة الخشنة.
صادف أثناء وجودنا بالخرطوم تنظيم أيام مولد الوليّ الصالح السيد الميرغني حيث تزدانُ الشوارع بالأضواء وتتزيّن المساجدُ بالأنوار ويمشي الناس في مواكب نحو المسجد الكبير الذي تُقام فيه حلقاتُ الذكر والأوراد، في أجواء صوفيّة خالصة، فيها ما يجعل السّودان متميزا جدًا في هذه المواعيد الرّوحية المختلفة، ويتوزّع عبر أرصفة الشوارع باعةُ البخور والحلويات والأشياء التي ترتبط بهذه المُناسبة، ثم تُقام الولائم ويأكل النّاس والأتباع ما لذّ وطاب..
لم يكن هذا الموقف عابرًا، بل أكّد أنّ للسُّودان خصوصية في هذا الجانب، وفهمتُ أنّ في هذا البلد أحزابًا تتأسس على البُعد الطُّرُقي والصُّوفي أكثر مما ترتكز على المبادئ السياسية، رغم أنّ شعب السودان، باعتراف العالم، هو من أكثر شعوب المعمُورة تسيّسًا، وقد جرّبت هذا مع من أقابلهُم في الشارع أو السّوق.. بل إنني استفدتُ كثيرا من كلام سمعته من سائق سيّارة أقام أكثر من 15 سنة في الأمارات وعاد ليستثمرَ شقاء عُمره في إقامةِ مطحنةِ قمح، لكنه ضُرب ضربةً قاصمة بانهيار الدّولار في فترة تحرير السّوق والأسعار، فكان كمن بقي في الإمارات سوى ثلث المدّة. كانَ يتحدث عن السّودان تاريخا وسياسة وأحزابا وكأنه خرّيج جامعة كبرى وهو لا يعدُو أن يكون مجرد موظف يقضي يومه وراء مقعدِ سيارة حكوميّة..
وغير بعيدٍ عن المكان الذي تقامُ فيه أفراح سيّدي الميرغني بالخرطوم بحري، توجدُ كنيسةٌ يقصدُها المسيحيون ليحيُوا السّنة الجديدة وفق طقوسِهم وفيها شيء من الرّوح الغربيّة.. غير أنني لمستُ تسامُحا كبيرا، إذ بين الجامع الذي يعلوه هلال والكنيسة التي يعلوها صليب مساحةٌ من المحبّة والاحترام. وكل واحد يرفع يديه كما يشاء ويدعو لمن يشاء.
على ضفّة النّيل يوجدُ منتجعُ الريفييرا الجميل الذي تقصدهُ العائلات السودانية لقضاءِ أمسيات هادئة سواء في ساحاتِه الواسعة أو قاعاته ومطاعمِه الحديثة، كما أنه يتوفر على مساحاتٍ للعب مُخصصة للأطفال.
قال لي مرافقي: “هذا المكان يقصدهُ الجميع وخاصة عِليَة القوم”، وقد أقام لنا وزير الثقافة مأدبة عشاءٍ تخللتها قراءاتٌ شعرية شارك فيها شعراءٌ من السّودان وآخرُون من العرب.. غير أنها استمرّت إلى منتصف الليل ولم يجرُؤ أحد على الجهر بأنه جائع، فتكفّلتُ بالأمر مع الشاعر السوري الهجّاء عصام خليل (صار وزيرًا للثقافة في 2014)، وكتبنا على ارتجالاً أبياتا شعريّة، طلبتُ الإذن في قراءتها، مع التحذير مُسبقا، أنها قد لا تعجب بعض الجمهُور، وأنّ على الحاضرين أن يتعاملوا معها كدُعابة لا غير. ومن بين ما قلنا:
دُعينا للعشاء فكان همًّا
سماعُ الشعر من قبل العَشَاءِ
يُقرقعُ في بطونٍ خاوياتٍ
كقرقعةِ الغُصون مع الهواءِ
ولو أني عرفتُ بأي سَوْطٍ
سأجلدُ ما أتيتُ بذي المسَاءِ
قضاءُ الله أن أُصلى بجلدٍ
وأين أفرُّ من حُكم القضاءِ
أعاقبُ بالكلام طوال يومِي
وعند الليل أحرَمُ من حسَائِي
وما أذنبتُ من عمري ولكنْ
رضيتُ من الثقافة بالشّقاءِ
فيا ربّاه لطفكَ إنّ حالي
كثكلى لا تواسَى بالعزاءِ
فما كان من الوزير إلا أن دعا الجميع إلى العشاء، ونلتُ من ثناء الجائعين ما لم أنله من الشّعراء الذين لم يقرؤوا وكانوا أعدّوا أنفسَهم لمعركة شِعر ساخنة..
انتهت الرحلة الجميلة.. وعندمَا عندنا إلى القاهرة رأيتُ صديقي ورفيقي في رحلة السّودان سعيد بن زرقة سعيدًا لأنه أخذ وقته الكافي في غفلة منّي وراح يستعيد ذكرياته في الأماكن التي ارتبط بها أيّام جامعة عين شمس..