سد النهضة وامكانيات الخروج الآمن
بقلم: أ. د. حمدي عبد الرحمن *
منذ انهيار مفاوضات واشنطن بين مصر والسودان وإثيوبيا أواخر فبراير الماضي بات الجميع يقرع طبول الحرب نتيجة تصريحات إثيوبيا بأنها سوف تمضي قدما في خططها الخاصة بملء خزان سد النهضة حتى بدون اتفاق. يقول وزير الخارجية الإثيوبي: “الأرض أرضنا والمياه مياهنا والمال الذي يبنى به سد النهضة مالنا ولا قوة يمكنها منعنا من بنائه”.
وقد أفادت التقارير أن أديس أبابا نشرت صواريخ لحماية السد، بل إن رئيس الوزراء أبي أحمد تحدث عن امكانية حشد مليون إثيوبي للدفاع عن السد. يصاحب ذلك كله عملية تعبئة شعبية داخل إثيوبيا وفي بلاد المهجر لتصوير سد النهضة بأنه أمل الأمة الحبشية في التقدم والازدهار.
بيد أن اللافت في مثل هذه الحملات الشعبوية أنها تعمل على “شيطنة” مصر بحسبانها تريد الاستئثار وحدها بموارد النيل. وقد ذهب بعضهم حد مطالبة مصر بدفع تعويضات لأثيوبيا نظير استخدامها لمياه النيل . يقول الدكتور أكلوج بايرا في موقع بوركينا الإثيوبي: “يتعين على مصر في مرحلة ما – ومن أجل تحقيق العدالة- دفع مئات المليارات من الدولارات كتعويض وإيجار للشعب الإثيوبي نظير استخدامها المجاني لمياه النيل ،حيث تسهم إثيوبيا وحدها بنحو 86 % منها “.
وفي المقابل تدور حرب الكلمات في مصر على قدم وساق حيث طالب البعض بأنه لابد من الخيار العسكري لحماية مصالح مصر المائية ، كما أمر الرئيس عبد الفتاح السيسي الجيش المصري بأن يكون في “حالة تأهب قصوى”.
ما هو الموقف الراهن الخاص بالأطراف الثلاثة؟
يدور الخلاف الرئيسي بين مصر وإثيوبيا حول الفترة الزمنية اللازمة لملء خزان سد النهضة وتأثير ذلك على إمدادات المياه في مجرى النهر التي تصل لدولتي المصب السودان ومصر. ترغب إثيوبيا في ملء الخزان بأسرع وقت ممكن حتى تتمكن من تحقيق العوائد الاقتصادية . أما مصر فإنها تتحدث عن هيدرولوجيا النهر أخذا بعين الاعتبار سنوات الجفاف وفترات الجفاف الممتد ، وبعبارة أخرى ضمان عدم المساس بحقوقها التاريخية من مياه نهر النيل. أما السودان فهو يقف في منتصف الطريق بين البلدين ، إنه بشكل عام يؤيد بناء سد النهضة ولكنه يرفض توقيع اتفاق جزئي من ناحية ويطالب بمزيد من الدراسات الخاصة بسلامة السد وآثاره البيئية من ناحية اخرى. وعلى مدى السنوات الأربع الماضية، لم تتمكن المحادثات الثلاثية بين مصر وإثيوبيا والسودان من التوصل إلى اتفاقات حاسمة.
بعد رفض إثيوبيا التوقيع على مسودة اتفاق واشنطن التي تمت برعاية كل من الولايات المتحدة والبنك الدولي وتصميم إثيوبيا على ملء خزان السد بدون اتفاق لجأت مصر إلى تدويل القضية فاتجهت الى الجامعة العربية وفي الأول من مايو 2020 أرسلت رسالة إلى مجلس الأمن الدولي مؤكدة أن السد سوف يعرض الأمن المائي والغذائي وسبل العيش للمواطنين المصريين للخطر. أضف إلى ذلك فإن الخطط الأثيوبية الخاصة بسد النهضة قد تهدد كذلك السلم والأمن الاقليمي. وفي العاشر من إبريل اقترح رئيس الوزراء الأثيوبي أبيي أحمد اتفاقا مؤقتا خاص بالملء التجريبي للسد لمدة سنتين، بيد أن هذا الاقتراح قوبل بالرفض من كل من السودان ومصر. وكالعادة كما هو متوقع تم الإعلان بعد كل هذه السجالات الكلامية عن استئناف المفاوضات الثلاثية الخاصة بسد النهضة وذلك في أعقاب اجتماع بتقنية الفيديو كونفرس بين رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك ورئيس الوزراء الاثيوبي أبي أحمد. ونلاحظ أن العودة كما ورد في البيان السوداني مرتبطة باستكمال الجزء اليسير المتبقي طبقا لمرجعية واشنطن والمفاوضات التي حدثت في الأشهر الأخيرة.
هل احتمال حرب المياه وارد؟
من المعروف أن نهر النيل حيوي لمصر حيث تعتمد جميع الأنشطة الزراعية والصناعية والمنزلية ، بشكل أساسي على هذا المصدر. وبسبب هذه الحقيقة، تشعر جميع الحكومات المصرية بالقلق من إمكانية عرقلة أو منع تدفق مياه النهر قبل الوصول إلى الأراضي المصرية. كان النيل رمزا للحياة عند المصريين القدماء، وهو ما يظهر في ترنيمة “أنشودة النيل” التي تعود إلى فترة سحيقة من تاريخهم القديم . تقول الترنيمة: “المجد لك أيها النيل الذي ينبع من الأرض ويحمل الخير لمصر وعندما تفيض يعم الفرح البلاد. أنت تطفح فتسقى الحقول وتنعش القطعان وتمد الناس بالقوة. اذا تأخرت بنعمك توقف دولاب الحياة واذا غضبت حل الذعر في البلاد .يا سيد الأسماك ومنبت القمح والشعير “. في العصر الحديث، تم التعبير عن أهمية النيل ومكانته الحيوية أيضًا في الفكر السياسي المصري بشكل خاص. فقد أعلن الرئيس أنور السادات ، أن “المياه هي القضية الوحيدة التي يمكن أن تدفع مصر إلى الحرب ” في إشارة إلى تغيرات ديناميات الصراع العربي الاسرائيلي في أعقاب معاهدة كامب ديفيد عام 1979. بالإضافة إلى ذلك ،عادة ما يتم اقتباس مقولة بطرس بطرس غالي ، الأمين السابق للأمم المتحدة، بشأن نهر النيل وقضية الحرب حيث يرى بأن “الحرب القادمة في منطقتنا ستكون حول مياه النيل وليس السياسة”.
من جهة أخرى فإن إثيوبيا ، وهي من أفقر البلدان ، لديها تطلعات لتوليد الطاقة الكهرومائية لدعم التنمية وكسب النقد الأجنبي عن طريق البيع إلى البلدان المجاورة. كما أن سد النهضة أصبح رمزا للكرامة الأثيوبية ويكاد يجمع عليه الكل . وعادة ما يرتبط سد النهضة العظيم في المخيال الإثيوبي العام بمعركة عدوة التاريخية. ففي 2 مارس 1896 ، هزمت القوات الأثيوبية جيش الاستعمار الإيطالي الأفضل عدة وعتادا في موقعة عدوة ، في شمال إثيوبيا. ومن خلال هذا الانتصار التاريخي حافظت اُثيوبيا على استقلالها في ظل عمليات “التدافع الأوروبي على إفريقيا” ، كما تمكنت الأدبيات الأثيوبية من جعل عدوة رمزا للتحرر والاستقلال لكل الشعوب السوداء داخل إفريقيا وخارجها. ولم تستبعد القيادة السياسية الحالية في إثيوبيا أيضا الخيار العسكري وأعلنت استعدادها الدفاع عن سد النهضة في حالة تعرضه للهجوم.
وعليه أضحت قضية المياه والتوزيع العادل لها واستخدامها مسألة أمن قومي في كلا البلدين. يعني ذلك أن إساءة التقدير وتبني منظور صراعي عنيف أمر وارد، ولكنه خيار غير رشيد ومدمر للجميع. في مارس2020 ، صرح رئيس أركان الجيش الإثيوبي ، الفريق آدم محمد ، أن الجيش مستعد لصد أي هجوم على سد النهضة الكبير . ومع ذلك ، إذا قارنا القوة العسكرية لمصر وإثيوبيا ، فإن الوضع الميداني واللوجستي لا يبدو في صالح الجانب الإثيوبي. طبقا لمؤشر القوة العسكرية لعام 2020 من قبل مؤسسة “غلوبال فاير باور” Global Fire Power ، احتلت مصر المرتبة التاسعة بعد المملكة المتحدة مباشرة. مصر لديها أقوى جيش في أفريقيا. في الوقت الذي تحتل فيه إثيوبيا المرتبة الستين. بيد أن اللجوء للخيار العسكري لايزال مستبعدا حيث إن تبعاته الدبلوماسية والإقليمية بعيدة المدى لا يستطيع أحد تحملها ، فضلا عن أنها سوف تزيد الأمور تعقيدا.
إمكانيات المسار التفاوضي
في ظل استبعاد الخيار العسكري- وإن ظل مطروحا- يمكن تصور مسارين أساسيين على النحو التالي.:
المسار الأول. التوصل إلى اتفاق مبدئي خاص بقواعد الملء الأول والتشغيل وكذلك آليات الرقابة وفض النزاعات. وهذه القضايا متفق عليها أصلا. وتبقي القضايا الحاسمة مثل إجراءات التخفيف من حدة الجفاف خلال سنوات الجفاف والجفاف الممتد. بيد أن مصر ترفض مثل هذا المسار وترى بضرورة الالتزام بوثيقة واشنطن. من المعروف أن ملء السد خلال أول سنتين ليس موضع خلاف نظرا لمحدودية الأثر الهيدروليكي له. ففي السنة الأولى تحتاج اثيوبيا حجز 4.9 مليار متر مكعب من المياه لاختبار اثنين من توربينات السد ، في السنه الثانية تحتاج إلى حجز 13.5 مليار متر مكعب لاختبار باقي التوربينات. أي أن إثيوبيا تكون بحاجة إلى حجز 18.4 مليار متر مكعب خلال أول سنتين من فترة الملء.
المسار الثاني. التوصل إلى اتفاق شامل يتعلق بقواعد الملء والتشغيل والانتهاء من القضايا الخلافية المتعلقة بالجفاف. قد يدفع تحول الموقف السوداني بهذا الاتجاه حيث أنه يرفض الاتفاق المؤقت. كما أن نحو 90%من القضايا التي تم التفاوض عليها في واشنطن كانت محل اتفاق من الأطراف الثلاثة. ويمكن في هذا السياق تعديل بنية الاطار التفاوضي وفقا لمرجعية واشنطن. بيد أن التحدي هنا يتمثل في صعوبة المفاوضات المباشرة في ظل أزمة كورونا ومحدودية الإطار الزمنى ( نحو شهرين فقط )، اللهم إذا قامت أثيوبيا بتأجيل الملء الأول للسد.
من الواضح أن أزمة سد النهضة تتجاوز الجوانب الفنية التي يمكن حسمها، إنها بالأساس تتعلق بالسياسة والأيديولوجيا ومسألة التنافس الإقليمي بين البلدين، فضلا عن ديناميات السياسات الداخلية .إزاء الضغوط المتزايدة وشعبوية خطاب سد النهضة السائد تبقى فرص المناورة السياسية للقيادة السياسية محدودة للغاية. ربما لا يكون من الصعب التوصل إلى اتفاق تفاوضي شريطة وجود حسن النية من جميع الأطراف. أولاً، كما أن لإثيوبيا الحق في استخدام مياه النيل من أجل نهضتها فإن ذلك لا يكون على حساب دولتي المصب مع ضرورة مراعاة حقوقهما التاريخية في مياه النيل وفقا لقاعدة لا ضرر ولا ضرار. ثانيًا، التوصل إلى حل وسط بين خطط إثيوبيا لملء خزان السد بأسرع وقت ممكن ومطالب مصر بأن يتم ذلك على مدى زمني مناسب بحيث لا يؤثر سلبا على النظام الهيدروليكي لسد أسوان .ثالثا: الاتفاق على آليات الرقابة والمتابعة ولاسيما إنشاء لجنة مشتركة لرصد سير تشغيل السد وتبادل المعلومات بحيث لا يلحق الملء ضررا جسيما بدولتي المصب.
* عن مجلة قراءات افريقية