في وداع عثمان خالد مضوي


 بقلم : عبد الله مكي

amekki2005@gmail.com

حينما غنت نساء السودان : يا الله يا خالد… فوّزت عثمان خالد

والعام 1986م يشهد معركة سياسية حامية الوطيس، وكل التيارات السياسية من أقصى اليمين لأقصى اليسار تُقدم رؤاها وبرامجها ومرشحيها الذين سيُنفذون هذه البرامج، والإختيار الحر هو من نصيب الشعب السوداني وذلك بعد 18 سنة فصلتهم من آخر انتخابات في 1968، وأعقبتها دكتاتورية مايو والتي استمرت 16 عاماً.
حملت الإنتخابات مفاجئات من العيار الثقيل – خاصة لأحزاب اليسار وكذلك الأحزاب الطائفية صاحبة الخبرة في الشأن الإنتخابي – حيث حلّت الجبهة الإسلامية القومية كقوة ثالثة في البرلمان(53 مقعداً) بفارق 10 دوائر فقط من الحزب الإتحادي الديمقراطي(63 مقعداً)، كمفاجئة أولى. بينما نالت الأحزاب اليسارية صفراً كبيراً، عدا الحزب الشيوعي والذي فاز بعدد(2 دائرة) في العمارات وامتداد العمارات حتى الديم(محمد إبراهيم نقد وعز الدين علي عامر) رحمهما الله رحمة واسعة. حيث لم يفز حزب الطبقة العاملة والكادحين ودكتاتورية البوليتاريا لافي عطبرة ولا نيالا ولا الفولة ولا الحاج يوسف ولا دار السلام ولا أمبدة ولا في الجزيرة حيث (لقاطة القطن والجو كيفن سخن) إنما فاز في مناطق الأرستقراطية والبرجوازية الصغيرة.
والمفاجئة الثانية جاءت الجبهة الإسلامية القومية في المرتبة الأولى في دوائر الخريجين(رغم اعتراض الجبهة الإسلامية على فكرة دوائر الخريجين)، وإصرار اليسار عليها (حيث ما زال يتوهم بتمثيل الطبقة المثقفة)، والغريب في الأمر تصريح رئيس حزب كبير:(إنّ خريجي حزبه فقط أكثر من جماهير الجبهة الإسلامية وخريجيها)، فاكتسحت الجبهة الإسلامية جميع دوائر الخريجين في الأقاليم الشمالية كافة:(الإقليم الشمالي والشرقي والأوسط وإقليم دارفور وإقليم كردفان)، بالإضافة لثلاث دوائر في جنوب السودان(الإقليم الجنوبي).
والمفاجئة الثالثة هو أنّ الجبهة الإسلامية القومية هي الحزب الوحيد الذي أدخل نساء في البرلمان، وهما (سعاد الفاتح البدوي وحكمات سيد أحمد).
والمفاجئة الرابعة كانت الجبهة الإسلامية هي الحزب الأول الحائز على أكبر عدد من الدوائر الإنتخابية في العاصمة القومية الخرطوم. وفي الخرطوم كانت هناك دائرتين لهم شهرة خاصة وخصوصية عامة.
الأولى دائرة الصحافة وجبرة والتي ترشح فيها الدكتور حسن عبد الله الترابي الأمين العام للجبهة الإسلامية القومية، حيث تكتلت كل القوى السياسية من يسارية وتقدمية وعروبية وقومية وطائفية خلف مرشح واحد وتناسوا خلافاتهم الأيدولوجية وبرامجهم وأصبح همهم الوحيد هو منع زعيم الجبهة من دخول البرلمان عبر صناديق الإقتراع ومن خلفهم دول الإقليم والإستكبار العالم، حيث جعلت وكالات الأنباء العالمية(خاصة الناطقة بالعربية) وجهتها الأولى تغطية انتخابات السودان وفي الإنتخابات متابعة دائرة واحدة(الصحافة وجبرة) حيث يقول المذيع وبكل عنفوان:(نتوجه مباشرة إلى الصحافة وجبرة) والتي – كما قالت الطالبة بجامعة أمدرمان الإسلامية مقدمة ندوة لدكتور الترابي تحت عنوان: أسباب انحطاط المسلمين – اكتسبت عالميتها (أي الصحافة وجبرة) بعالميته (أي دكتور الترابي)، لتظهر النتيجة ويحصل التجمع بكل أحزابه وتياراته على(12 ألف صوت)، ويحصل دكتور الترابي وحده على(10 ألف صوت) والتي اعتبرها أحد إعلامي الوكالة البريطانية بأن الترابي (فائز بكل المقاييس الديمقراطية).
أما الدائرة الثانية فهي دائرة (البراري) والتي نزلت فيها السياسية المخضرمة الأستاذة فاطمة أحمد إبراهيم وخلفها كل أحزاب اليسار والأحزاب الأخرى حتى تكون ممثلة المرأة تدخل البرلمان عبر بوابة الحزب الشيوعي، ولكن الجبهة الإسلامية رشحت مولانا عثمان خالد مضوي ابن المنطقة والقاضي النزيه والمناضل الجسور من الأراضي الأثيوبية والصحراء الليبية ثم من عاصمة الضباب (لندن) مع الشريف حسين الهندي وعمر نور الدائم وأحمد عبد الرحمن محمد والأمين العام للجبهة الوطنية ومدير المركز الإسلامي في سويسرا.
ودارت رحى الإنتخابات وفاز عثمان خالد فوزأ مدوياً، ويومها غنت نساء الخرطوم الأغنية المشهورة (الليلة أنا مالي الإسلام دخل لدياري) وهي كانت رد على بعض الأغاني الهابطة التي هاجمت قيادة الجبهة الإسلامية، وأكّدت هذه الأغنية ورفيقاتها أنّ الجبهة الإسلامية انتقلت من مرحلة الصفوية والنخبوية إلى مرحلة الجماهيرية والشعبوية، تقول بعض كلماتها:
الليلة أنا مالي..الإسلام دخل لدياري
******
يا الله انت معين..الجبهة خريجين
ما مهم سقوط يس..شيوعية بس اثنين
اثنين فقط وأنا مالي..الإسلام دخل لدياري
******
يا الله يا خالد..فوّزت عثمان خالد
سقّطّ ملحدة نافرة..حرقت قلب الفاسد
فساد في الديم وأنا مالي..الإسلام دخل للبراري
آخر الحوارات
اتصل عليّ الأستاذ محمد الفاتح رئيس تحرير صحيفة ألوان آنذاك، وأنا كنت مستشار التحرير بنفس الصحيفة وطلب مني التجهيز لحوار توثيقي مع الشيخ عثمان خالد مضوي، فقلت له : دا عمل كبير، وكيف وافق شيخ عثمان ؟ فهو رجل لا يُحب الإعلام والظهور، بل البعض اعتقد انه قد مات منذ مدة وفارق الحياة، بعدها مباشرة اتصلت على الأستاذ المحبوب عبد السلام، فأخبرته بأني سأُجري حواراً مع الشيخ عثمان خالد مضوي ومعي رئيس التحرير، فانبسط جداً، وقال لي دا كنز من كنوز السودان، وهو رجل ذو (ذاكرة حديدية) ويحفظ الأحداث عن ظهر قلب، وحتى الأشعار والقصائد الطويلة. وفعلاً وجدنا كل هذا الكلام صحيح، فقد سجلنا معه حوالي(8 ساعات توثيقية) عن حياته وعن الأحداث السياسية التي عاصرها وشارك فيها، منذ ميلاده وحتى حل الحزب الشيوعي في الستينيات، وكيف وافق مؤتمر المحامين العرب بأغلبية ساحقة على حل الحزب الشيوعي من الجمعية التأسيسية، وأسرار ثورة أكتوبر والحكومة الإنتقالية وتجمع المهنيين وعلاقته بأحمد سليمان وعبد الخالق محجوب، ومظاهرات ضد إعدام الإخوان المسلمين في مصر ومشاركتهم هو والشهيد محمد صالح عمر في التدريب العسكري في الأردن، وحكى بالتفصيل ما تم في مؤتمرات الحركة الإسلامية في 1954 و1969 وخلافات الترابي وجعفر شيخ إدريس وأشهر الذين وقفوا مع شيخ إدريس، وما هي قصة محمود براد ومشاركة الرشيد الطاهر بكر في إنقلاب ضد عبود وكيف قدّم الفنان عبد الكريم الكابلي في نادي أمدرمان الثقافي وتحت حماية حامد عمر الإمام. وغيرها من الملفات. وبدأ هذا الحوار بقصة التحاقه بمدرسة حنتوب ومعاصرته للترابي فيها وفي جامعة الخرطوم وكيف رشحه الترابي لإدارة المركز الإسلامي بسويسرا. وسننشر جزء من هذا الحوار في الأيام القادمة إن شاء الله، ألا رحم الله الشيخ عثمان خالد مضوي واسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وجعله الله من السابقين الأولين.