أميركا تنتحر اقتصادياً
ترجمة: قيس الصديق
_
أترون الرسم البياني أعلاه؟
أنتم تشاهدون اقتصاداً يحتضر. هذا، يا أصدقائي، ما يبدو عليه الدمار الاقتصادي. إذ يشير الرسم البياني إلى أن طلبات الحصول على إعانة البطالة ارتفعت إلى 7 ملايين طلب في الأسبوع الماضي. وهذا رقم مرتفع للغاية ويتسم بوتيرة سريعة للغاية، بحيث لا يوجد له مثيل في كل التاريخ المدوّن، حتى عن بُعد.
يتعرض الاقتصاد الأميركي، في الوقت الحالي، إلى أكبر صدمة في تاريخه. إنها صدمة أسرع وتيرة وأكبر حجماً وأكثر تدميراً من أي حرب خاضتها الولايات المتحدة، وهو أحد الأسباب العديدة التي تجعل تشبيه ما يحدث بالحرب غير كافٍ. إذ إننا لم نشهد، حرفياً، مثل هذه الصدمة من قبل.
لماذا يُترك الاقتصاد الأميركي يصارع الموت؟ لأن ما تفعله مؤسسات الحكومة بشأنه ليس كافياً. فهذه الصدمة ليس لها نظير في التاريخ، وبالمثل كان يجب أن تكون جهود التصدي لها. ولكن بدلاً من ذلك، أصدر الكونجرس والرئيس مشروع قانون التدابير التحفيزية الذي يُعد أبعد ما يكون عن المستوى اللازم. إلى أي درجة؟ وعلى أي نحو دقيق؟
لنفكر في الأمر معاً.
يتمثل السبب الأول الكامن وراء احتضار الاقتصاد في أن التدابير التحفيزية ليست كافية لأنها ببساطة أقل بكثير من التدابير المطلوبة. سنُجري بعض الحسابات معاً، ولا تخافوا؛ فهي حسابات يمكن لأي طالب في المدرسة إجراؤها. كم يبلغ حجم الاقتصاد الأميركي؟ 20 تريليون دولار في السنة. وتمثل الشركات الصغيرة حوالي 99% من عدد الشركات في هذا الاقتصاد. ما مقدار نسبة الحافز المحددة لدعم الشركات، وخاصة الصغيرة منها؟ 500 مليار دولار. هل ترى مشكلة في هذه الأرقام حتى الآن؟ ينبغي أن ترى مشكلة. إذ إن هذا المبلغ يمثل حوالي 2.5% فحسب من حجم الاقتصاد على مدار عام، وهو ما يعني أنه ليس كافياً.
نسبة التدابير التحفيزية التي تستهدف دعم الشركات كافية لدفع عجلة الاقتصاد لمدة أسبوع واحد فقط. (بالتأكيد، يمكننا تعديل هذه الأرقام بزيادتها أو إنقاصها. فإذا افترضت أن 80% من حجم الاقتصاد يتمثل في قطاع الأعمال، وليس 100% منه، فإن التدابير التحفيزية تكفي لدفع عجلة الاقتصاد لمدة أسبوعين. لعلكم ترون المشكلة الآن) فكروا في الأمر لبرهة. أسبوع واحد فقط من الدعم، في خضم أكبر أزمة منذ الحرب العالمية الأخيرة. يا للكارثة!
هذه الصدمة تاريخية على وجه التحديد لأنها ستتسبب في إيقاف عجلة الاقتصاد؛ على غرار ما يحدث في موجات الشركات التي تغلق أبوابها فعلياً مع بقاء الموظفين في منازلهم، لفترة أطول بكثير من أسبوع واحد. وقد مرّ بالفعل أسبوع. وسيستغرق الأمر شهوراً حتى قبل استئناف أي مظهر من مظاهر الحياة الطبيعية. ولكن بحلول ذلك الوقت، سيكون قد فات الأوان: لأن هذه التدابير التحفيزية تدعم الاقتصاد لمدة أسبوع فحسب، وستكون معظم مكونات الاقتصاد قد تداعت.
وهذا يقودني إلى السبب الثاني الذي يفسر عدم كفاية التدابير التحفيزية. إذ إن هذه التدابير التحفيزية ليست سريعة أو كبيرة أو بسيطة بما يكفي لتعزيز الثقة، ولذا يصاب الناس بالذعر. حتى إذا كنت أرغب في الحصول على القليل من الدعم الذي يُقدم لي – لنقُل بصفتي صاحب شركة صغيرة – كيف أبدأ؟ وإلى من سألجأ؟ أنا نفسي بالكاد أستطيع أن أجد الإجابة، وقد بحثت في مختلف الوثائق المتعلقة بالدعم. إذ إنه بمثابة مجموعة متشابكة من الإجراءات الروتينية والفوضى البيروقراطية. وقد لا يبدو هذا أمراً مهماً، ولكنه كذلك. ويكمن سبب أهميته في هوّة الثقة التي يتسبب فيها. إذ أشار كينز منذ نحو قرن إلى أن مفتاح تجنب الكساد يتمثل في الثقة. فإذا كنت أعتقد أن الأمور ستكون على ما يرام، وكنت أنت أيضاً تعتقد ذلك، فلربما، إذاً، لن نكدس أموالنا ونستغني عن موظفينا وما إلى ذلك، ولن يسفر ذلك عن حلقة الكساد المفرغة. ولكن إذا لم يكن بوسعي معرفة كيفية الحصول حتى على الدعم القليل الموجود، فسأفقد الثقة بسرعة، وسرعان ما ستدور الحلقة المفرغة.
وهذا بالضبط ما نراه يجري في الواقع الماثل. لماذا قدم عشرة ملايين شخص طلبات الحصول على إعانة البطالة في أسبوعين فحسب؟ لأنه لا يوجد دعم كافٍ لدفع عجلة الاقتصاد، ولأن الدعم القليل هذا لا ينتج عنه شعور بالثقة. والإجابة بالأحرى هي: نظراً لأن الأمر أضحى متاهة وفوضى، يفقد الناس ثقتهم بسرعة في المؤسسات والأنظمة القائمة. ويعمل أصحاب العمل على تسريح الموظفين، حتى إذا لم يكونوا مضطرين إلى ذلك، لأنهم لا يستطيعون معرفة ما إذا كانوا مضطرين إلى تسريح الموظفين أم لا.
وفي هذه الأثناء، تروّج وسائل الإعلام لصرف شيك بمبلغ 1200 دولار لكل مواطن أميركي. لكن الحقيقة مختلفة للغاية. حيث إن مبلغ الـ 1200 دولار هذا ترتبط به جميع أنواع المقاييس. سواء إذا جعلت هذا المبلغ لشخص واحد أو لشخصين متزوجين، وما إلى ذلك. صحيح أن ذلك سيوفر القليل من المال لـ 90% من الأشخاص، ولكن معظم الأشخاص لن يحصلوا على ما يكفي من المال.
ودعونا نُجري للأشخاص الحسابات نفسها التي أجريناها للمؤسسات. حيث يبلغ حجم الاقتصاد 20 تريليون دولار، ويوجد في الولايات المتحدة 127 مليون أسرة، تزيد قليلاً أو تنقص قليلاً. وإذا قُسّم الدخل بالتساوي بين هذه الأسر، فسيبلغ دخل كل أسرة حوالي 150 ألف دولار. لكن بالطبع، ليس كل الأميركيين بهذا الثراء. إذ يبلغ متوسط الدخل حوالي 60 ألف دولار فقط، لأن الأغنياء يتبوؤون كامل النصف الأعلى من الاقتصاد. ويعني متوسط دخل قدره 60 ألف دولار حوالي 1100 دولار في الأسبوع. وهذا يعني أن المبلغ التحفيزي الذي تتبجح به وسائل الإعلام كثيراً يعادل قيمة دخل أسبوع من مستوى دخل الشخص العادي.
هل ترى التناظر الغريب في هذه المسألة؟ التدابير التحفيزية مقدارها ضئيل للغاية لدرجة أنها تدعم الشركات لمدة أسبوع واحد فقط. وينطبق الأمر نفسه تماماً على الأشخاص؛ إذ إنها تدعم الشخص العادي لمدة أسبوع واحد فحسب أيضاً.
أسبوع واحد فحسب، وقد مضى بالفعل أكثر من أسبوع.
وهذا يقودني إلى السبب الثالث الذي يفسر أن هذه التدابير التحفيزية ليست كافية: ما فائدة دعم الأشخاص والشركات لمدة أسبوع واحد فقط في ضوء العديد من القيود والاعتبارات؟ وما فائدة الدعم إذا استمرت الأزمة شهوراً؟ لن تدفع الحكومة هذا المال لعدة أسابيع أخرى، وربما لأشهر في كثير من الحالات. والظروف المرتبطة بهذا الدعم تجعل قيمته مبلغاً لا جدوى منه تقريباً لكثير من الناس. هل ترى المشكلة مرة أخرى؟ التوقيت والدعم المشروط: إذ إن هذا الدعم القليل على نحو يتنافى مع المنطق السليم سيصل بعد فوات الأوان تماماً. بعد فوات الأوان على ماذا؟ ليس فقط بعد فوات الأوان على دفع الفواتير؛ حيث يمكننا جميعاً توقّع حدوث ذلك، بل بعد فوات الأوان للحيلولة دون حدوث الذعر، وهو ما يمثل المفتاح لتجنب أي كساد.
ومن يدري كيف تحصل على هذا الدعم؟ وما مقدار ما ستحصل عليه؟ وما إذا كنت ستحتاج إلى تعيين محامٍ لتحظى بأي مبلغ أصلاً؟ ولأي جهة ستقدّم طلبك حتى؟ لأن تصميم هذه التدابير التحفيزية مبهَم للغاية، وهو ما يُخفي عن الجميع ما يجري، فليس ثمة شعور حقيقي بالطمأنينة أو الثقة التي تنهض بالاقتصاد بهدوء. ومن ثم، يصاب الناس بالذعر. هذا هو السبب في أن عشرة ملايين شخص قدموا طلبات للحصول على إعانة البطالة في الأسبوعين الأخيرين فحسب.
دعونا نفكر، الآن، في أن هذه الأزمة مدمرة إلى حد لا يوصف. كم يساوي “عشرة ملايين شخص”، كنسبة مئوية، على أي حال؟ يبلغ عدد القوى العاملة الأميركية حوالي 164 مليون شخص، وهو ما يعني أن عشرة ملايين تعادل نسبة 6% منها. قد لا تبدو هذه النسبة عالية، ولكنها تعني حوالي 3% في الأسبوع. وإذا استمر التزايد على هذه الوتيرة، فسترتفع النسبة إلى 12% في الشهر، و24% في شهرين. هذا، إذاً، ربع الاقتصاد سيقدم طلبات للحصول على إعانات البطالة، في غضون أسابيع. أي بنسبة 50% في أربعة أشهر. إلى متى تعتقد أن فيروس كورونا سيستمر؟ شهرين؟ ثلاثة؟ أربعة؟ سيحدث انفجار!
يمثل فيروس كورونا كارثة قد تؤدي إلى الفناء بالنسبة للاقتصادات الحديثة. هذا هو السبب في أن هذا الوباء حدث لم يشهد له العالم الحديث مثيلاً من قبل، ولا حتى في الحروب أو الكوارث الطبيعية أو الأزمة المالية العالمية. لأنه عندما يصل المجتمع إلى حوالي 25% أو نحو ذلك من البطالة المفاجئة طويلة الأمد، التي لا رجعة فيها، يكون أمر الاقتصاد قد انتهى بشكل أو بآخر. ولن يمكنه التعافي مما حدث لعدة أجيال مقبلة. ويعني هذا الرقم إغلاق عدد كبير من الشركات، وفقدان وظائف إلى غير رجعة، وخسارة المداخيل وتبدًّد المدخرات، والحجز على المنازل. إنها نهاية العائلات والعلاقات والاستقرار والأمل. وعادة ما تكون هذه نهاية الديمقراطية أيضاً، حيث يتحول الناس إلى رجل قوي في غضبهم وسخطهم ويأسهم. إن الانهيار الاقتصادي هو نهاية ثقافة ومجتمع وسياسة معتدلة وحديثة وحكيمة على هذا النحو، فهو أصل كل الخراب.
ويوشك كل هذا الانهيار الآن أن يحدث في مستقبل أميركا القريب؛ ليس العام المقبل، بل في هذا الصيف. لأن جهود التصدي لفيروس كورونا اتّسمت بالقصور إلى حد كبير. ويمكنكم رؤية ذلك في الحياة اليومية؛ في مشاهد الأطباء وهم يصنعون الكمامات من صناديق البيتزا، وفي اقتسام المرضى المحتضرون لأجهزة التنفس الصناعي. كل هذا يعكس الحقيقة البسيطة المتمثلة في أن الحكومة الأميركية لم تبذل القدر الكافي من الجهد في التصدي لأكبر صدمة اقتصادية في التاريخ الحديث. بل إنها بالكاد فعلت أي شيء على الإطلاق.
في نهاية المطاف، عندما تؤلَّف الكتب لتوثيق ما حدث، أنا واثق أن مؤلفيها سيقولون إن الحكومة الأميركية دعمت الناس والشركات لمدة أسبوع واحد فحسب. أسبوع واحد فحسب، وسط أزمة تاريخية كارثية استمرت لأشهر. ونتيجة لذلك، توقفت عجلة الاقتصاد عن الدوران ومات، تماماً مثل مريض مصاب بفيروس كورونا لم يعد بإمكانه التنفس، ولم يكن لديه جهاز تنفس صناعي أيضاً.
لكن ذلك لم يكن له من داعٍ. لأن المال بهذا القدْر ليس سوى خيال اجتماعي. ويمكن للحكومة، وينبغي لها، دعم الاقتصاد بقدر ما يتطلبه الأمر من دعم، وضمان مداخيل الشركات والأفراد على حد سواء، وكذلك صرف شيكات الدعم كل شهر. هذا لا يُغرق المجتمع في “الدين”. إذ إنها ليست أموالاً “نقترضها” من أي جهة أخرى، كالصين مثلاً. نحن نُقرضها فحسب لأنفسنا، وهو ما يعني أنه يمكننا إلغاء الديون بعد ذلك دون أي عواقب سيئة. ويمكن للبنك المركزي شطب أي ديون مستحقة فعلياً في اليوم التالي لزوال الأزمة. وإذا كنتم تشكّون في ذلك، ففكروا في الجهة التي تدين لها الحكومة بالمال. لأي جهة تدين الحكومة بالمال بالضبط؟ الجواب: لا أحد. إذ إنها اقترضت من نفسها فقط، وبالتالي يمكنها إلغاء الدين أيضاً.
لا، لن يحدث “تضخم”. ما سيحدث هو انكماش هائل في الاقتصاد إذا لم يحدث أي مما سبق. كل هؤلاء الملايين من الأشخاص يطلبون الحصول على إعانة البطالة؟ هذا يعني انخفاض الأجور بشكل كبير، وتتبعها بالمثل الأسعار أيضاً.
___
المصدر:
https://eand.co/america-is-committing-economic-suicide-c7c1f7122169