التمثيل الموضوعي للواقع الاجتماعي المعاصر في مجموعة القاص محمد المصطفى حامد ‘‘ منضدة وأوراق ’’
بقلم : عز الدين ميرغني
المصطفى حامد . وتعتبره بيانه الإبداعي السردي الأول . والقاص في هذه المجموعة , تكتشف بعد قراءتها المتأنية أنه اعتمد على عدة مرجعيات في كتابة هذه المجموعة ‘‘ مجموعة منضدة وأوراق ’’ . ومن أولى المرجعيات التي استند عليها في هذه المجموعة هي ذاكرته الشخصية القوية , والتي تميزت بفن التقاط اللحظة والمواقف الإنسانية الصغيرة . ثم استظهارها بقالب القصة القصيرة . فليست كل ذاكرة تصلح للكتابة .
هذه المرجعية ذات الاستظهار اللحظي , تمردت على الشكل التقليدي في كتابة القصة القصيرة . وتجاوزت بذلك أقانيمها ومعاييرها دون أن تخرج من دائرتها المحصورة والمعروفة , ومنها قلة الشخصيات واللغة المقتصدة والمكثفة . وأنها تمردت أيضاً على وحدة المضمون والحدث , وفنون الوصف والتشكيل ورسم النمط النموذجي من الشخصيات . كما أنها قد ابتعدت عن الحوارية تلك التي تكون دائماً على حساب البنية القصصية , والمعروف بأنها لا تتحمل الحوارية الزائدة . ودون شك بأن مرجعة الذاكرة عند القاص محمد المصطفى حامد , قد جاءت من ذاكرة المكان الأمدرمانية . ذلك المكان المحمل بالتعدد الثقافي والانصهار القبلي والشخصيات غير العادية . ولعل المرجعية الثانية , هي غربته البريطانية والتي يعمل بها طبيباً , أتاحت له هذه الغربة المكانية , والتي ذهب إليها وهو يحمل موهبة الالتقاط اللحظي للمواقف التي تمر به , خاصة بأن الغربة تكثر بها النماذج الإنسانية التي كانت ضحية للفشل والذي يؤدي للخيبة والإحباط .
تأثرت هذه المجموعة كذلك بالتوجه الأيديولوجي والعقيدة الأنصارية الجهادية للقاص , وهذا الانعكاس امتصته بنية القصة دون وعظ وهتافية . وتأتي المرجعية الثالثة , وهي المرجعية المهنية , فممارسته للطب جعلته يحس بالإنسان وهو في قمة ضعفه وانكساره حتى ولو كان في قمة قوته . وبذلك يكون قادراً على الكتابة أن يلتقط هذا الضعف في الإنسان سريعاً . وفي هذا الكاتب الإنجليزي ‘‘ سومرست موم ’’ , { إن الطبيب يعرف الطبيعة الإنسانية في قمة ضعفها ’’ والقاص الجيد الذي يحمل موهبة فن الالتقاط الجمالي اللحظي , فإن هذه الميزة الجمالية تنتقل معه في أي زمان ومكان .وهذه الذاكرة التي من مرجعيات الكتابة عنده , لا تهتم بلنهاية التقليدية في القصة , وإنما تهتم بالفعل الإنساني الملتقط , معاناته آلامه وتشظيه . فالنهاية في نصوصه مفتوحة , مثل الغريب الذي وجد نفسه ضحية المكان والزمان . اختاره بنفسه أم جاء إليه مرغماً .
لذا كانت اللغة في هذه المجموعة هي صاحبة البطولة وسيدة الموقف . لأن وظيفتها الأولى هي أن تظهر هذه المواقف الإنسانية بقوتها وضعفها . ولم تخذل الكاتب في إظهار ما تذكره وما التقطه . من مواقف أراد تجسيدها وتسليط الضوء عليها . ومن النصوص المميزة في هذه المجموعة قصة ‘‘ عندما رأى عثمان ’’ , والتي يمكن أن تدخل التاريخ الجيد للقصة السودانية الحديثة . استخدم فيها القاص , لغة التداعي لشخصية عانت من البطالة بعد تخرجها من كلية الهندسة بجامعة الخرطوم وعمل كسائق ركشة , وتعرض لحادث بترت فيها ذراعه , وأصيب بالإحباط وفقدان الأمل . , ومن هنا وظف الكاتب أيديولوجيته وعقيدته الأنصارية الجهادية , في تقنية الحلم , والذي رأى فيه البطل عثمان جزء من معركة كرري حيث الرايات المرفوعة والجهاد الحقيقي في الموتى والجرحي فاستعاد أمله ورغبته في الحياة . قيقول في النهاية بعد أن يستيقظ من الحلم { ثم نهضت وصدري يموج بارتياح عاصف } . وهي جملة ذات قفلة ونهاية بليغة .
مجموعة ‘‘ منضدة وأوراق ’’ , ليست مجموعة الثيمة أو الموضوع الواحد وإنما هي محملة بعدة مواضيع إنسانية ولحظية مختلفة . وقد كانت مرجعيته المهمة هي تجربة الغربة , ووجود نماذج من الفشل والضياع والوحدة . والنهاية غير المعروفة لشخص حرق مراكبه من خلفه . تجسدت في مثل هذه النصوص ثلاثة أزمنة , الماضي الذي يحكي دوافعه لهذه الهجرة , والحاضر الذي يعيش مأساته , ثم المستقبل المجهول والذي لا يعرف نهايته . واستفاد بذلك من النماذج التي قابلته وهو يعيش في بريطانيا . وهذه النماذج التي وجدها والتقطها , احتاجت منه لكي يستخدم تقنية الحكاية داخل الحكاية , بحيث وجود أكثر من نموذج مختلف في النص الواحد , وهما يؤكدان المعنى الذي يرمي إليه . أخذت القصة القصيرة هذه التقنية من السينما بحيث يتم تقطيع النص إلي أكثر من مشهد يخدم المعنى ويؤكده ويدخله في دائرته الكبيرة .
تأثر القاص محمد المصطفي موسى , بذاكرة المكان الأمدرمانية , وهو يلتقط منها بعض النماذج الإنسانية المنسية , والتي أتاحت لها سماحة المكان أن تأخذ دور البطولة والحب والتميز . ومن النصوص الجيدة في المجموعة والتي تأثرت بالمرجعية المهنية للكاتب كطبيب , قصة ‘‘ الممشى الأخير ’’ , لرجل سبعيني تصدمه عربة , فيأتوا به للحوادث , وقد مات فيحتار أحد الأطباء في معرفة اسمه وهويته , حتي يجد رساله في جيبه بعثتها له ابنته والتي تنتظر سفره وهجرته معها للولايات المتحدة الأمريكية . وهي رسالة محزنة حركت ما هو كامن في داخل الطبيب . وكشفت دور السرد الرسائلي في القصة الحديثة .
كان دور اللغة كبيراً ومحفزاً في هذه المجموعة , فقد كانت للكاتب لغته التعبيرية الوصفية المميزة , وبصمته الأسلوبية الخاصة . واتسمت بسمة شعرية خفية وعفوية وليست مصطنعة . فلغته ذات موسيقية هادئة وإيقاع ذو صوت هامس وخفي . وباستخدام نغمة لحنية متكررة . , ‘‘ الملامح الباهتة ’’ , ‘‘ النجيمات البعيدة ’’ , ‘‘ المسافة الأزلية المتمددة ’’ , ‘‘ المنضدة المنخفضة ’’ . هذه التكرارية اللحنية هي قمة الشعرية في القصة القصيرة الحديثة . فلغته تمتاز بالتناغم الصوتي المقصود وهي أشبه بالسوناتا أو المعزوفة السردية ذات اللحن الواحد . وخير مثال لها هي قصة { الحنين إلي الوطن المستحيل } . وهذا ما يجعل التناغم كبيراً بين الصوت والمعنى . يقول في قصة { هوامش على دفتر العبور من الموت إلي الحياة } . ‘‘ دبلن تلك المدينة الصاخبة بأمسيات أواخر الأسبوع , ما زالت تخبيء لي الكثير , بناياتها ذات الأسقف المنحدرة .. وأزقتها التي لا تفارق أرصفتها .. زخات المطر . وحدائقها المنتشرة على مد البصر .. يا لخضرتها التي ليس لروعتها نهاية .. يا لحلاوة شقراواتها بعيونهن الزرقاوات . ما يتراءى لي خلفهن من أسرار وددت لو أنفق عمري في سبر أغوارها العميقة .. حتى وإن أفضى بي ذلك إلي مهلكة , لطالما وقع في حبائلها من استدرجه جهله لخطورة تلك المزالق ونهاياتها المخيفة .} . فنهاية الجملة , أصبح بجملة شعرية ذات روى واحد . ومن أمثلة الشعرية في نصوصه القصصية , أن النهاية فيها تكون تكون بجملة واحدة منفردة أشبه بالجملة الشعرية . ومثال لذلك قصة , ‘‘ عندما رأى عثمان ’’ , والتي يقول في نهايتها ‘‘ ثم نهضت وصدري يموج بارتياح عاصف ’’ ويقول في نهاية قصة { هوامش على دفتر الحضور } , ‘‘ وسترون أن للغد في دفاتري ألف قصة ’’ . بمعنى أن قصتي لم تنته بوصولي لأوربا فهنالك قصص وحكايات لم تبدأ بعد . بمعنى أن الغد ستكون مآسيه أكبر من مآسي الوصول . وقصة { يوميات الولد الذي راقص النهر } , تقول نهايتها البليغة ‘‘ هذه هي الحياة كما يفهمها عقلي الصغير .. متلازمة عابثة يقتتل في ساحتها الشيء وضده في آن واحد .. فطوبى لمن يحياها كما هي والويل لمن يتحدى قوانينها التي لا يتجاسر عليها إلا مغفل مجنون ’’ . فالنهاية جملة تحمل فلسفة الكاتب ورؤيته عن الحياة . والنهاية في قصة منضدة وأوراق , التي أخذ منها عنوان المجموعة , وتتجلى فيها موسيقى التكرار , { عد إلي قهوة أمك المصبوبة على فنجان من الدفء والحنين , عد إلي نفسك قبل كل شيء , فما أنت إلا غرس تبدلت تربته فلما استوي على سوقه , نازعته أوراقه المخضرة بذاكرة من الحنين المتقد إلي ترابه البكر . } . هنا نجد موسيقية تكرار الكلمة , ثم استخدام المفردة القرآنية في تناص بديع . ‘‘ فاستوى على سوقه ’’ . وفي قصة ‘‘ الحنين إلي الوطن المستحيل ’’ , يقول في نهايتها ‘‘ شخص ما ابتلعته دفاتر النسيان .. شخص ما بل بطاقة أو عنوان .. ’’ .
هذه المجموعة تجسد التمثيل الموضوعي للواقع الاجتماعي الذي رصدته في خارج الوطن أو في داخله . وقد كانت أبطالها تمثل هذا الواقع الأليم بواقعية موضوعية مقنعة . كانت تقنيات القصة القصيرة الحديثة في هذه المجموعة حاضرة , فقد استخدم تقنيات الاستباق , والرجوع والعودة . وتقنية الاستشراف والوقفة واللازمة والقطع , والمشاهد السيناريوهاتية . ولقد امتازت شخصيات نصوصه بالكثافة النفسية وكان زمن السرد هو الزمن النفسي الداخلي لأغلب هذه الشخصيات .