عبد الحي يوسف يكتب عن الحبر يوسف نور الدائم: “هذا الذي صحبت أنفاسه القرآن”

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على قضائه وقدره، وإن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى.
أسأل الله تعالى أن يتغمد شيخي الأستاذ الدكتور الحبر يوسف بواسع رحمته، وأن يسكنه فسيح جنته، وأن ينور له في قبره، ويفسح له فيه مد بصره، وأن يجعله روضة من رياض الجنة.
هذا الذي صحبت أنفاسه القرآن، قراءة وتفسيراً، وتدبراً وتعليما، عرفته المنابر والمحاضر، واستفاد منه البادي والحاضر، وكانت له قدم صدق في بيان حقائق الإسلام، والمنافحة عنه وتحمل الأذى في سبيل ذلك كله.
تعرفت على الشيخ – رحمه الله تعالى – منذ مجيئي إلى السودان من الإمارات عام 1993 فألِفته وأحببتُه، وأفدت منه علماً غزيراً وأدباً جماً وخلقاً زكيا، في غير تكلف ولا تنطع، وكنت أقصد بيته مستشيراً ومستنيرا؛ فأجد عنده الرأي الصائب والقول السديد
كان رحمه الله وقور الهيئة رقيق الحاشية هادئ الطبع كثير التبسم، يلقاك بوجه باش وما تكاد تراه مكفهراً ولا عبوساً ولا ضيق الصدر، ولعل ذلك راجع إلى زهده في دنيا الناس؛ فما كان بالحريص على التكثر منها ولا التوسع فيها؛ يلحظ ذلك من زاره في بيته في أم درمان؛ حيث المتاع قليل والزاد يسير، مع حرص على تعجيل القرى لضيفه والإحسان إلى زواره. ومكتبه في الجامعة هو مكتبه الصغير منذ أن صار أستاذاً بها أوائل سبعينيات القرن الماضي إلى أن توفاه الله، ومع ذلك جعل الله له مهابة في قلوب تلاميذه، حتى رأيت بعضهم – وهو أستاذ مرموق في الجامعة – لما حضر الشيخ لبعض المحافل تراجع ذلك الأستاذ عن مقعده في الصف الأول من تلقاء نفسه دون أن يطلب منه أحد، من أجل أن يجلس فيه الشيخ المبارك
أذكر أنه حين أشرف عليَّ وأنا أعد أطروحة للحصول على درجة الماجستير؛ فآنس مني شيئاً من تأخر، وأدرك أن ذلك ناتج عن زحمة المحاضرات والدروس والخطب؛ فقال لي (اللي ما خلَّى شي ما سوَّى شي) فأدركت مرامه وأسرعت الخطا حتى حصلت على الماجستير؛ ثم أكرمني الله بإشرافه عليَّ في مرحلة الدكتوراه؛ فما رأيت منه إلا خيراً مع حرص على التيسير؛ حتى إنه ليلاطفك بالقول حين يلحظ خطأ أو تقصيرا، مع طيبة قلب وصفاء نفس؛ حتى تشعر أنه لا يحمل في صدره غلاً ولا حسداً لمسلم
والخلق العظيم الذي تميز به الشيخ رحمه الله هو التواضع فقد كان في ذلك نسيج وحده؛ حتى إنك لتشعر أنك مع أب رحيم أو أخ ودود، فما كان يعبأ كثيراً بالألقاب ولا الرسوم التي اعتادها الناس، مع بر عظيم بأساتذته وشيوخه
وفي سنواته المتأخرة أبى الله إلا أن يعظم له الأجر بفقد أصغر أولاده، الأثير عنده – عزام تقبله الله في الصالحين – حيث مات غرقاً فصبر واحتسب؛ ولعل له بشارة في قوله نبينا صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: إذا ابتليت عبدي المؤمن بقبض صفيِّه من أهل الدنيا ثم احتسبه عوّضته الجنة)
ثم كان صبره العظيم حين نزلت بالناس تلك الفاجعة وتمكن البغاة الظالمون من أنحاء الخرطوم فأبى أن يبرح بيته أو يغادر مكانه، فمكث فيه إلى أن وافته منيته وحان أجله، أسأل الله تعالى أن يرفع درجته في المهديين ويخلفه في عقبه في الغابرين، ويجعل مثواه جنة النعيم.
وبعد، فهذه كلمات تلميذ في رثاء أستاذه وشيخه، والعزاء لإخوتي الكرام الأستاذ محمد الحبر والدكتور عمر الحبر والأستاذ أبو بكر الحبر وأخواتهم وأمهم الفاضلة الصالحة، جبر الله كسرهم وعظم أجرهم وجمعهم بوالدهم في دار كرامته، والحمد لله رب العالمين
كتبه
عبد الحي يوسف
5/5/1445