السودان إلى أين.. نور التوافق أم ظلام الإقصاء؟ 

.السودان إلى أين.. نور التوافق أم ظلام الإقصاء؟

  • بقلم: النذير السر

*إن أخطر ما يشكل تهديدا ماحقا بالأمن القومي والإقليمي هو موت حاسة الاستشعار والاستكشاف السياسي لقادة قحت والعسكر معا، ولعل هذا يفسر الانكباب الدولي لسرعة تعديل هذه الحالة السياسية الشاذة في موقع جغرافي شديد التأثير على الأمن والسلم الدوليين.

وهنا لا بد من التذكير عبر أول تعليق لنا على انقلاب اللجنة الأمنية للبشير، وقلنا وقتها أن التوقيت الذي اتخذ فيه قرار الانقلاب أ، بأن بوضوح تام جهل وأعضاء اللجنة الأمنية بالزمان السياسي الإقليمي والدولي وإنه، ولو كان هذا الانقلاب قام به ضباط اليسار  ضد الحزب الشيوعي لكان رأينا هو نفس الرأي ، لأنه القوى العظمى في لحظة تحشيد لصراعاتها(الحتمية) والعالم في طريقه لوداع السيطرة الغربية التي تشكلت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ونبهنا وقتها للمخاطر التي تواجهها إثيوبيا (لم تكن الحرب الإثيوبية وقتها قد اندلعت)،  وأن هذا الأمر قد يكون انعكاسه سالبا على الجهود الدولية التي تعاني مسبقا من ضعف في قدرات آلياتها المجربة.

أما وقد أصبح الانقلاب أمرا واقعا، كان الأمل معقودا أن يستوعب السياسيين جملة التعقيدات على المستويين الإقليمي والدولي ويسارعوا من الخطوات الإجرائية والموضوعية التي تقلل من مخاطر الاعتماد على دول إقليمية ودولية، تواجه هي الأخرى قضاياها المصيرية الكبرى، وليست لديها فوائض من الوقت والمال كما ليست لديها القدرة  على الانفراد بالمشهد السياسي لوحدها.

ولكن وكأن السودان كان مقدورا عليه أن يتزامن في قيادته في هذه اللحظة الحرجة من التاريخ العالمي والإقليمي والسوداني بالطبع، أضعف قيادة عسكرية وأجهل قيادة سياسية، فقد كفانا (الناشط) الإقليمي الأكبر، أبي أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي مشقة التوصيف حينما أطلق عليهم أنهم مجرد (نشطاء، وليست رجال دولة) هذا أبان توسطه الباكر وعمله الدؤوب لضم حكومة الثورة بجانبه انتزعا لها من التأثير المصري، وقبل إشعاله للحرب في بلاده ودوسه على الدستور.

للأسف فإن ضعف القراءة الاستراتيجية للعسكر تسبب في تضخم داء السيولة السياسية وجعل البلاد تسير في اتجاه الحرب الأهلية، فالعسكر مع تجاهلهم لعدم مناسبة التوقيت الانقلابي استنوا سنة استقدام الحشود أمام القيادة، وهذه سنة لم تحدث على مدار الثورات الشعبية السابقة، ولكن ولأنه (انقلاب مودرن) عملوا على تزيينه ببعض الغطاء الجماهيري، واستجاب قادة  قحت وتحالف الحرية والتغيير هو (الحاضن الأول لانقلاب اللجنة الأمنية) وقد اعترفوا بتفاهمات مسبقة بينهم وقادة الانقلاب.

ضعف العسكر وسطحية قادة الحرية والتغيير  هما من قادا الوضع لما بعد قرارات أكتوبر، فقد حاد التحالف منذ أول يوم عن أهداف الانتقال إلى أهداف السيطرة، ومن الحريات إلى الكبت ومن الديمقراطية إلى الإقصاء، وكأن هنالك مدخراً من الزمن والطاقة ليعاد تكرار أخطاء التجربة السياسية منذ الاستقلال.

الحقيقة التي أظهرها تحالف الحرية والتغيير هو عدم إدراكه لجملة المتغيرات التي جرت على الساحة الداخلية والإقليمية والدولية، على مستوى الداخل تجذرت تجربة الحكم الاتحادي لدرجة يصعب الحديث عن تجاوزها، وقحت لم تأتي على الحكم الاتحادي في ورقتها السياسة حتى(الوثيقة الدستورية) وتتوهم أن بإمكانها حكم السودان من خلال مشورة بضع الناشطين في قهاوي الخرطوم، أما على المستوى الإقليمي، فيكفي خطاب الأصم الذي وجه عبره تحذيرات فجة لدول إقليمية مؤثرة، وتعمدهم عدم منح وزير الخارجية السعودي فرصة للحديث في يوم إعلان (جهالتهم) السياسية للسودان والعالم أجمع، الأمر الذي عطل أكثر من ثلاثة  مليارات دولار كانت كل من الرياض وأبوظبي قد صادقت عليها.

إما إعلان الجهالة السياسية، فقد تمظهر بشكل مخجل عبر موقف الحرية والتغيير من المبادرة الأممية والتي طورت لاحقا لتصبح مشتركة بينها والاتحاد الأفريقي وهيئة الإيقاد، والتي تمثل جماع رغبات المجتمع الدولي وبالأحرى هندسة صراعاته تجاه السودان في إطار يحقق مصالح الجميع، بل إن  الأمم المتحدة لا شك أنها أصابها الذهول قبل تصميمها لهذه المبادرة، وذلك عبر الجهود التي قادها الأمين العام للأمم المتحدة مع البرهان وحمدوك، وأنتجت حلا سياسيا أطلق بموجبه قادة قحت من الاعتقال.

وما أن رحبت الأمم المتحدة بالاتفاق بين حمدوك وبرهان حتى تمت مهاجمة الأمين العام كما جرى اتهام ممثله بالخرطوم (فولكر) بتضليل الأمم المتحدة ومجلس الأمن! قبل أكثر من ثلاثة أشهر انطلقت اللقاءات الاستكشافية للمبادرة  المشتركة، وحشدت قحت كل واجهاتها السياسية والمدنية والنقابية لمقابلة فولكر وما أن أعلنت المبادرة عن انطلاق أعمالها حتى تمنعت قحت عن الحضور ورفضت مقابلة المكون العسكري وفاء لشعار لاءاتها الثلاثة، التي لم يرفعها حتى النظام الساقط في وجه مخالفيه السياسيين والعسكريين، ثم أعلنت قحت ذاتها عن موافقتها على لقاء بوساطة أمريكية سعودية مبرره أن الدولتين من أكثر الدول اهتمامها بالسودان، وقد يكون ذلك صحيحا، ولكن التوصيف يؤكد مجددا الجهالة السياسية فالمبادرة الأممية تمثل كل العالم، فهل يعني هذا أن الآخرين غير مرحب بهم؟

أكثر ما كشف عن سطحية قادة قحت هو البيان الذي أعقب لقاء منزل السفير السعودي، فلم يكتفى البيان بخلل تبريره لرفض الوساطة الأممية واستجابته لدعوة الرياض وواشنطن بل ادخل الدولتين في حرج دبلوماسي، وورطهم سياسيا الأمر الذي اضطرت معه سفارتا الدولتين لإصدار بيانات تنفي ما أكدته قحت، بزيف المبادرة الأممية وأن المبادرة السعودية الأمريكية ليست هي البديل لمبادرة( الزيف الدولي)، لا يدري هؤلاء النشطاء ان هذا البيان تتلاقه جميع مخابرات حكومات الدول التي تهتم بالسودان في إطار صراعاتها العالمية الأمر الذي قد ينعكس على الهندسة الدولية التي تم التوصل إليها بعناء (البعثة الأممية) والتي وفقا للتغييرات التي طرأت على موازين القوى الدولية لا يمكن حتى لأمريكا أن تعمل منفردة بالسودان والأمثلة واضحة، فقد هزمت أمريكا في سوريا وليبيا فلا سبيل للوصول لتوافقات من غير اتفاق حد أدنى دولي.

ولكن قحت بجهلها تحرج حتى حلفائها هذا ان كان لها حلفاء بالأساس، فقد جردت القوى الدولية المتعاطفة معاها من أدوات المضاغطة المنطقية التي تتوافق وقواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، التي لا تعرف حق احتكار الجدارة السياسية ونزع حق المواطنة من الآخرين، فهي ضد الحوار والانتخابات وضد مشاركة كيانات سياسية واجتماعية تمتلك كامل حقوق المواطنة،وبالنظر لجملة الإفادات المسجلة عقب انطلاق الجلسة الفنية للمبادرة التي تغيبت عنها قحت، فقد وضح ان قادتها لا يرون أي نجاعة من مبادرة لا تعيد إليهم السلطة كاملة، وهذا التضخم السياسي المتسبب الأول فيه العسكر، فقد منحوا قحت سلطة غير مستحقة، واستبعدوا لها غالب القوى السياسية، مع نص الوثيقة الدستوري الواضح على تكوين حكومة (كفاءات مستقلة).

تريد قحت العودة لما قبل 25 أكتوبر لقد كانت موجودة قبل هذا التاريخ ماذا فعلت، لقد وجدت النخبة السياسية الجديدة ممثلة في قوى الحرية والتغيير الفرصة كاملة لمدة عامين ونصف العام وأثبتت فشلاً كاملاً، عجزت عن هيكلة منظومتها، وخرقت الوثيقة الدستورية عندما تهافتت على المناصب دون الاحترافيين أو التكنوقراط، وكانت أسوأ بطانة لأفضل رئيس وزراء متاح، ثم حملت شريكها العسكري حملاً إلى الانقلاب فماذا تريد أن تجرب للمرة الثانية؟