عبد الله مكي يكتب : الشيخ الترابي في ذكراه
الشيخ الترابي في ذكراه الأولى
المنشية: عبد الله مكي
استغرب الكثيرون عندما سمعوا بالأمس أنها ليلة الذكرى الأولى لوفاة الشيخ العلامة الدكتور حسن الترابي، إذ يعلم الجميع أنّ الوفاة كانت في الخامس من مارس من العام ستة عشر وألفين. ولكن عندما استبنا الأمر من أسرة الراحل الكريمة، أوضح لنا نجله الأكبر صديق حسن أنّ الشيخ الترابي يُحب التعامل والتوثيق بالسنة الهجرية، وهو ما فسّر لنا قيام الذكرى الأولى في هذا اليوم، وهو ما يُوافق الخامس والعشرين من شهر جمادى الأولى من العام 1438 هجرية.
امتلأ فناء الدار بالمحبين والتلاميذ وشيوخ الطرق الصوفية وعلى رأسهم الشيخ أبوعاقلة الترابي خليفة ود الترابي، والشيخ عبد الوهاب الكباشي خليفة الشيخ الكباشي، وقيادات الحركة الإسلامية وجموع غفيرة من الشباب، وعدد مقدر من الصحفيين والإعلاميين، واللافت للنظر الحضور الكبير للنساء من مختلف الأعمار والأجيال. وتزين المجلس بأسرة الراحل الشيخ الترابي وفي مقدمتهم السيدة وصال الصديق المهدي،سيدة البيت، و(أم المؤمنين) كما يحلو للإسلاميين تسميتها.
ابتدأ هذا اليوم بتلاوة الذكر الحكيم، وختم الجميع المصحف الشريف، فتحولت المنشية إلى ما يشبه خلية النحل، لما سُمع فيها من دندنة وترتيل لآيات الكتاب المبين، انتهت حلقات القرآن بدعاء طويل ومهيب بصوت (الشيخ أبو ذر) الأمر الذي أبكى الجميع وكأنهم على صورة راهب عابد يتبتل إلى الله في صومعته.
تحدث الأستاذ صديق حسن الإبن الأكبر للشيخ الترابي، وأثنى على الذين حضروا وشاركوا في هذه الليلة، وكشف صديق أنّ هناك عدة جهات تفاكرت حول إحياء الذكرى الأولى لوفاة الشيخ الترابي، ولكن كان الشيخ يُحب العمل بالسنة الهجرية فقلنا لهم من الأفضل أن يكون كذلك، فكانت هذه الليلة، وعام مضى والشيخ ذهب إلى ربه، وما زالت تدور الحوارات والنقاشات حول أفكاره وآرائه، وبجهدكم واجتهادكم تصل هذه الأفكار وهذه الدعوة مداها.
الترابي: الذكاء والعبقرية
أما البروفيسور دفع الله الترابي شقيق الترابي الأكبر فقال: إني أتحاشا الكلام في هذه المنابر وأتركها للذين رافقوه أطول مدة من الزمن، وسأذكر بعضاً من ملامح حياته.
نشأ أخي حسن كغيره من أخوانه، وكذلك مثل والدنا وسط الأهل والأقارب حياة بسيطة متواضعة كسائر أهله. وحتى لمحات الذكاء التي ظهرت عليه منذ الطفولة، عادة يقول العلماء: إنه يزول بعد الطفولة، ولكنه استمر مع أخي حسن، ولفت نظر والدنا، وذلك عندما انتقلنا من الروصيرص لودمدني وذلك للإمتحان من المرحلة الإبتدائية للمرحلة الوسطى، حيث لم تكن في السودان إلا بضعة عشر مدرسة، واشفق الوالد عليه، ولكنه فاجأ الجميع واحتل المركز الأول في كل المراكز.
وفي الإجازة حدثني مرة فقال لي: إذا أكملت المرحلة الثانوية فسأتخصص في القانون، ولكنني أخبرته أنّ الجامعة لن تستقبله إلا إذا قفز عاماً كاملاً (أي من السنة الثانية إلى السنة الرابعة) لأنّ نظام جامعة الخرطوم تقبل للقانون عاماً بعد عام. وفي بداية العام ذهب أخي حسن وطرح رؤيته لمدير المدرسة (مستر براون) وهو انجليزي الجنسية، فاتصل مستر براون بإدارة جامعة الخرطوم وتأكد من هذه المعلومات المتعلقة بالقبول لكلية القانون، ثم قام بالنظر إلى السجل الأكاديمي للطالب حسن عبد الله دفع الله الترابي في المدرسة، فوجده من الطلاب المتفوقين فنقله مباشرة من ثانية إلى رابعة.
وفي كلية القانون بجامعة الخرطوم كان هناك قسم للقضاة الشرعيين، يتم فيه تعليمهم وتدريبهم، فبجانب حضوره لمحاضراته في الكلية كان يحضر معهم هذه الدروس والمحاضرات. وكل ذلك إضافة لما تلقاه من والده من علوم اللغة العربية والفقه وعلوم الدين الأخرى.
بعد تخرجه من الجامعة تم اختياره مساعد تدريس وأُبتعث للدراسة في بريطانيا فنال درجة الماجستير، وبعد عودته طلب من إدارة البعثات أن يُرسلوه إلى فرنسا، فاجتمعت لجنة الجامعة فرفضت بالإجماع، باعتبار أنّ الطالب قرأ في كل مراحله حتى الماجستير باللغة الإنجليزية، وسيُواجه صعوبة اللغة الفرنسية إذا سافر إلى فرنسا، فحدثني مدير الجامعة آنذاك – والحديث ما زال للبروفيسور دفع الله – أنّ الطالب حسن الترابي أرسل مذكرة لي ولكل أعضاء اللجنة من صفحة ونصف، يُوضح لهم فيها أسباب اختياره لفرنسا لتحضير الدكتوارة، فاجتمعنا مرة أخرى وسمحنا له بالسفر. فحضر دكتوراة الدولة في فرنسا.
في الجامعة كما تعلمون انضم للجماعة الإسلامية ووزع وقته بين العمل والجامعة، فأصبح أول عميد سوداني لكلية القانون، وقد شارك في الندوة الشهيرة التي عُقدت بجامعة الخرطوم في أكتوبر، فأذهل الحضور جميعاً، فكانت السبب الرئيسي في اشعال ثورة أكتوبر.
بعد ثورة أكتوبر شعر أنّ مشروعه الإسلامي لا يستطيع أن يخدمه وهو أستاذ في الجامعة، فلابد أن يتفرغ له، فقدّم استقالته من الجامعة فكانت هذه مفاجئة وحدث غريب في ذلك الوقت، لأنّ جامعة الخرطوم هي مؤسسة التعليم العالي الوحيدة، والعمل بها يُعتبر وظيفة مرموقة وذات وضع اجتماعي مميز.
فخرج لهذه الساحة الكبرى بكل طاقاته، وهذه القفزات الكبرى في العمل الإسلامي، من جبهة الميثاق الإسلامي إلى الجبهة الإسلامية القومية، إلى المؤتمر الوطني، إلى المفاصلة وتأسيس المؤتمر الشعبي، إلى الحوار وتأسيس المنظومة الخالفة حتى وافته المنية.
وكنّا نستغرب أين يجد الزمن فقد حفظ القرآن بثلاث روايات ، وكذلك كتابة هذه الكتب : الإيمان والصلاة والتفسير التوحيدي، وكتابه الصعب (السياسة والحكم) والذي اعتبره من الكتب الأكاديمية المميزة والتي من المفترض أن يُدرّس في الجامعات.وفي ختام حديثه شكر البروفيسور دفع الله الترابي لجنة الأثر الباقي لما قامت به من برامج.
عاش للناس وليس لنفسه
بهذه العبارات بدأ الدكتور سليمان حامد القيادي في المؤتمر الشعبي حديثه، وواصل الدكتور سليمان حديثه بالقول إنّ بنية الشيخ الترابي بُنيت في كنف والده العالم، وتعلم التعليم النظامي، ثم درس في الغرب، وتقلد عمادة القانون وهو في الثلاثين من عمره، وكذلك قيادته للحركة الإسلامية في بضع وثلاثين عاماً، كان مجاهداً مجتهداً، ومفكراً مجدداً، وذو عبقرية فائقة، وقلّ ما يجود الزمان بمثله، فابتعث الله هذا (الرجل الظاهرة) بعد السبات العميق للأمة، لذلك جاءت أفكاره صادمة حتى يستيقظوا، وكان يُعنى بحفز الأفكار وعدم الإفتتان بالغرب، والركون المطلق للقديم، ولا يستسلموا للواقع.
ولخّص دكتور سليمان أفكار وقضايا الترابي الرئيسية في الآتي: التوحيد والتجديد والحريات والمجتمع المؤمن والمرأة. وكان يدعو الناس لمغالبة السنن الكونية بالأسباب، والشيخ الترابي لا تحده البلدان ولا تُقيده الأفكار، وعندما غادر هذه الفانية كان يُخطط للمستقبل، فبدأ يُحدث الناس عن المنظومة الخالفة لإصلاح شأن السودان ووحدته، وأن يتمكن هذا الدين في هذه البلاد جميعاً، وكانت فكرة المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي لتوحيد هذه الأمة والمنطقة، فجمع المسلمين وغير المسلمين والعلمانيين واليساريين والقوميين والإسلاميين.
توحيده كان عملياً
أما الدكتورة ثريا يوسف فترى أنّ التوحيد عند الترابي كان عملياً وليس نظرياً، وقد حارب العنصرية في هذه البلاد، واهتم بالجنوبيين وأخرج منهم قيادات في مجالات مختلفة، وعندما كنت استاذة بالجامعات السعودية رأيت كيف كان تأثيره في الشابات والشباب، ومن أكثر الكتب تأثيراً هو كتابه (المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع).
(علمني الدين بلا خرافات)
الشاب محمد سيد التواتي (من جزيرة توتي) ومتخصص في علوم الحاسوب، والذي له عدد من المؤلفات – رغم صغر سنه – إلا أنه أضاف إضافات مهمة، فقا ليس المقام مقام تعريف بالشيخ الترابي، فالجميع يعرفونه، فهو أكاديمي وسياسي وعالم بمعنى الكلمة، وأصدق مقولة أعجبتني وأظن قائلها أخونا ابن عمر محمد أحمد أنّ (الشيخ الترابي علمني الدين بلا خرافات) ، وكذلك له المقدرة على النظر في البديهيات، وإلى جانب ذلك كان إدارياً فذاً، فأدار الحركة الإسلامية السودانية فجعلها من أميز الحركات.
ثنائيات الترابي
الشيخ عثمان البشير الكباشي رئيس لجنة الأثر الباقي والتي أقامت الندوة المشهورة عن (فكر الترابي ..الأثر الباقي) وذلك على شرف تقديم كتاب (حسن الترابي ..توقيعات على كتاب الرحيل)، قال: كان الترابي قائد ركب التوحيد والمؤمنين، وجعل الجميع يذكرون فضله وشمائله وهذا نتيجة لأنّ (المعاصرة حجاب). وقد سألت الشناقيط الثلاثة الذين كتبوا عن الترابي عن كلمة (الأثر الباقي هل تواصيتم بها؟) قالوا: أبداً لا ، ولكنها أفضل تعبير عن هذه الحالة، بل كتب أحدهم (من الترابي إلى الترابية) يعني من الشخص إلى المنهج، وأن أكثر شيئ يُعجبني في شخصية الترابي هذه الثنائيات:
العالم العامل، ورجل المجتمع الواسع والنخبة، والبراعة بين العمل السياسي والفكري، وهذه تحتاج لمن يدرسها ويبحث فيها. وقال في ختام حديثه أنّ من واجبنا توفير كل هذا المدد الذي تركه هذا الإمام الكبير.
مدير إذاعة الكوثر د. محمد عوض السيد تحدث حديث بالغ الروحانية عن الشيخ حسن الترابي كقيادي ملهم وصابر وجسّد معاني الدين، وصبر في هذا الطريق، وسامح وعفى عن كل الذين خالفوه في الرأي.
الترابي والعهد الروحي الوثيق
تحدثت القيادية د.نجوى عبد اللطيف عن العهد الروحي الوثيق الذي بينهم وبين الشيخ الترابي، وعن فكره العميق، ولغته الرصينة، وتمسكه بلغة القرآن وحكمه، وكيف أنه ساعدها فكرياً وعامياً في رسالة الدكتوراة من عنوانها وحتى أفكارها ومحتواها.وكيف أنّ الشيخ الترابي ناصر قضايا النساء ووقف معهن في كل المواقف ومن منطلق الدين الحنيف.
وتحدث الأستاذ خالد محمد خير باعتباره أحد أفراد الأسرة، حيث تحدث عن الترابي في البيت وك(نسيب) وعن السيدة وصال وكيف أنه عاش في كنف هذه الأسرة كواحد منهم لمدة عشر سنوات في داخل البيت وعن المعاملة الطيبة، وقال صحيح أنّ الترابي معظم وقته لكافة الأمة والناس، وحظ الأسرة فيه قليل، إلا أن هذا القليل والذي يكون أحياناً أثناء تناول وجبة، فإنّ الكلمات القليلة التي يقولها الشيخ الترابي، تكون للإنسان زاداً وفكراً ومعاني ومعنويات نستفيد منها في سائر حياتنا.
وصايا الترابي
اختتم الحديث الشيخ إبراهيم السنوسي الأمين العام للمؤتمرالشعبي والذي قال: إنّ ستين عاماً من مرافقة الشيخ الترابي لا يُمكن إختزالها في عشر دقائق، لذا ركّز في حديثه على آخر ورقة كتبها الشيخ الترابي عن الحريات والتي حددها بتسع نقاط وأكمل تفاصيلها ثم غادر للدار الأخرة، وقال سنتمسك بهذه الورقة لآخر رمق في حياتنا، وقال من هو الذي أعلم من الترابي حتى يقوم بتعديل لغتها وصياغتها وفقهها، ووجه االشيخ السنوسي لوماً للعلماء الذين انتقدوا الترابي بعد وفاته، لماذا يكون الإختلاف في الآراء يُؤدي للكفر والإتهام بالدجل، ولماذا لم يُحاوروه ويُناقشوه وهو حي.
وقال إنّ هذه الورقة أُجيزت من ضمن مخرجات الحوار، وإذا لم يأتي المؤتمر الشعبي بالحريات فما هي لازمة وجوده في الحوار، وقال صحيح إن لنا تأصيلنا ورؤيتنا الفكرية والفقهية لما ورد في التعديلات الدستورية فيما يتعلق بالزواج بالرضى والتراضي وحرية الإعتقاد وعدم قتل المرتد غير المحارب، ولكن السؤال لماذا التركيز على هذه المواد، وترك المواد الستة الأخرى المتعلقة بالحريات السياسية والتعبير والصحافة وغيرها. وفي ختام كلامه قال الشيخ إبراهيم السنوسي إنّ وصية الشيخ الترابي له هي السير في هذا الطريق وعدم الحياد عنه وذلك بالإلتزام بألا ينحسر الإسلام وألا يتمزق السودان.
وقد شهدت الذكرى عدداً من القصائد الشعرية والمدائح النبوية والأناشيد، وشارك فيها كل من الأستاذ زين العابدين طه بقصيدة المرحوم إمام علي الشيخ (فتى أخلاقه مثل) والتي كتبها في الشيخ الترابي، وكذلك قصيدة (تماضر) والتي كان يطلب الشيخ استماعها، وكذلك شارك في المديح الشيخ محمد البشير هاشم بقصيدة (أضرب عن الناس وادخل حضرة الله) وهي من كلمات الشيخ قريب الله، وقصيدة عصماء باللغة العربية الفصحى عن الشيخ الترابي كتبها وألقاها الدكتور عبد القادر أحمد سعد، كما شارك الأستاذ عصام الترابي برباعيات قوية عدد فيها مآثر ومجاهدات الشيخ الترابي، وكذلك مدائح من أبناء بحر أبيض أنشدوا من أشعار ومدائح الإمام الطرطري.
https://www.facebook.com/Sh.Turabist/posts/1763719546987146/