ملامح السيرة الذاتية في الرواية الرسائيلية
ملامح السيرة الذاتية في الرواية الرسائيلية
رواية سعود صادق حسن ‘‘ أيام متألقة ’’ وذاكرة الزمن الجميل
بقلم: عز الدين ميرغني
أيام متألقة هي الرواية الرابعة للروائي السوداني , ‘‘ سعود صادق حسن ’’ بعد رواية ( أخبار المسلمية ) , (البكاء في خيمة العرس ) , ورواية مدار المسلمية . وكلها قد صدرت عن دار ‘‘ مدارات ’’ للطباعة والنشر في طبعات أنيقة . وعنوان الرواية ذو دلالة توحي بذكريات وسنوات جميلة مضت , بحيث تحس ملمح السيرة الذاتية أو الغيرية في داخل النص الروائي . والعتبة الثانية هو الإهداء , والذي جاء فيه ( إلي إخوتي وصحبتي … الذين أضاءوا أيامي وجعلوها أكثر ألقاً .. الذين لولاهم لما كان هذا السرد ) . بمعنى الأيام المتألقة هي أيام الراوي والتي تمثل الشخصية الحقيقية للكاتب . second author self .
فبنية الرواية تقوم على الرسائل المتبادلة بين الراوي المرسل والمرسل إليه من الأصدقاء وشقيقه الذي هو أقرب إليه من البقية وهو بمثابة صديق مقرب ( يكبرني بأعوام ستة , هو الأقرب إلي من بين إخوتي رغم فارق السن ) . وبهذه الرسائل تدخل رواية ( أيام متألقة ) , في مدرسة الرواية الرسائيلية , Roman épistolaire , حيث كل الذكريات والأحداث تسرد عن طريق رسالة واحدة لشخص واحد , أو عدة رسائل لأكثر من شخصية كما في رواية ‘‘ أيام متألقة ’’ , حيث تدور الرسائل بين المرسل وشقيقه وأحد أصدقائه المقربين . والنموذج الأشهر لرواية الرسالة الواحدة , هي رواية الكاتبة السنغالية المشهورة ‘‘ مارياما با ’’ , والتي جاءت بعنوان { رسالة طويلة جداً } , Une si longue lettre , والتي تعتبر من روايات السيرة الذاتية , سردت فيها الكاتبة حياة البطلة التي عاشت فترة من حياتها في بلجيكا للدراسة ومارست حريتها الخاصة والتي تتعارض مع قيم وأخلاق مجتمعها السنغالي , وما سردته في رسائلها يطابق الحياة الخاصة للكاتبة ‘‘ مارياما با ’’. وأخذ النقاد عدة تقنيات من الرواية الرسائيلية , ومنها التداعي اللغوي ألاعترافي , والذي يترك الحرية للكاتب أو الكاتبة في نبش الماضي وذكرياته . ومنها أنها رواية البوح الذاتي الصادق والشفيف , ومن تتسم الكتابة بالصدق والشفافية . ثم دقائق تفاصيل الحياة اليومية المعاشة , لأن الراوي المرسل , لا يمكنه القفز فوق الزمن في رسائله , فالرسالة المكتوبة تعتمد دائما على التفاصيل في حيز زمني ضيق , طالما أنها مستمرة ومتبادلة بصفة أقرب إلي التواصل المبرمج . رغم أن النقد في قراءته لرواية تنتمي لهذه المدرسة , لا يهتم بكونها رواية سيرة ذاتية للكاتب أو لغيره , بقدر اهتمامه بالجوانب الفنية والمعيارية للرواية شكلاً ومضموناً .
وكلما توغلنا في هذا النص الروائي ‘‘ أيام متألقة ’’ , سنكتشف بأن العنوان كعتبة أولى يناسب المضمون حيث الذاكرة تعود لأيام وسنوات جميلة مضت جميلة ومتألقة وتستحق التدوين والكتابة . وهي محفورة في ذاكرة الراسل والمرسل إليه . بل تعتبر توثيقاً لفترة السبعينات في السودان حيث زمن الثقافة المتألقة بكل جوانبها المختلفة . استفاد النص كثيراً من المقدمات التعريفية لتقديم الشخصية المتراسلة مع الشخصية المحورية في الرواية , ‘‘ كنت في العاشرة حين أخذني لمكتبة الفجر يأتي في آخر مارس أو أول أبريل .. عطلة الجامعة السنوية . ننتظر مقدمه بفارغ الصبر .. نحتفي بكل من يأتي من الخرطوم . لم تكن تلك المرة الأولى التي أذهب فيها إلي المكتبة .. لكن تلك كان لها نكهة أخرى .. ماذا يقرأ طفل في مثل سني ؟ .. أشار علىّ باختيار بعض الكتب من مجموعات تصدرها دار المعارف بمصر .. للأطفال .. للأولاد .. الأنف العجيب .. اللحية الزرقاء .. حذاء الطنبوري .. كنوز الملك سليمان .. ثيودورا .. مجموعة طيبة انطلقت منها لحب الإطلاع . أما هو ؛ فقد ابتاع كتباً ضخمة لم أفهم كنهها حينها .. قسطنطين زريق .. عباس محمود العقاد .. أبو حامد الغزالي .. } . ومن هذه التقدمة نكتشف بأن العلاقة والصداقة كانت ذات بعد ثقافي وفكري عميق . تكشف ألق الثقافة والفكر في أيام السبعينات والتي حتى الأطفال كانوا يرتادون المكتبات . وبهذه توثق الرواية لهذا الزمن الجميل . وكان في كل شخصية تظهر جديدة يقدم تعريفاً لها حتى شقيقه الذي كان يراسله فهي علاقة ثقافة وصداقة أكثر من علاقة رحم , ‘‘ يكبرني بأعوام ستة . هو الأقرب إلي من بين أخوتي , رغم فارق السن لا يوجد بيننا أخ أو أخت . في الأعوام التالية .. يسير كل منا في طريقه .. بينما كان هو يخطو تلك الخطوات المتسارعة نحو شباب حيوي ملئ بالثقافة والتوجهات الفكرية المختلفة .. كنت أنا أتخبط في صباي العبثي . لكنه كان يوجهني إذا ما رأى ما يدعو لذلك .. ) . ومن هذه الرسائل المتبادلة , بين مقيم في الوطن وآخرون خارجه , يكتشف القارئ المتلقي بأنها ليست رسائل شوق ومودة شخصية , وإنما هي رسائل ذات معاني وقيم سامية وثقافة مكتنزة وخبرات طويلة وفائدة من فوائد السفر العديدة . وهي ثقافة بدأت مبكرة ولذا استمرت العلاقة ودامت .. ( قرأنا .. وقرأنا أخذه ‘‘ البير كامو ’’ في حكاية عن الغريب .. المدعو ‘‘ ميرسو ’’ حتى ظن أنه هو ذلك الغريب المدعو ‘‘ ميرسو ’’ .
كانت رسائل الصديق الذي يعيش في أوربا صادقة وممتلئة بقوة الملاحظة وخبرة المعايشة اليومية لتلك المجتمعات , ولقد كانت الثقافة زاده من ما جعله يعيش متوازناً . فلم يصور لصديقه بأن أوربا هي أرض الميعاد ولا جنة الله في الأرض . وقدم فيها الكثير من المعلومات والنصائح من غير تقريرية فجة لا يقبلها الفن الروائي . ( لأن تأتي إلي أوربا بمؤهل جامعي أساسي , خبر دونه كل أحلام الغد الغريب , ولألأ الخيال الجامح الذي ترسمه فكرة القدوم إلي أرض ( الحضارة ) . كان الطرف الأول وهو الراوي في الرواية , نداً ثقافياً حتى لأصدقائه وشقيقه الذين عاشوا خارج الوطن . فجاءت الرسائل بينهما متوازنة وفيها ندية ثقافية بعيداً عن المباهاة والمثاقفة المصطنعة . لذا تحس بقيمة ما يكتبه المسافر والمهاجر خارج الوطن , إذا خرج وزاده ثقافة المكان وقيمه , فلا يستفيد من المكان الآخر إلا من عرف قيمة المكان الذي جاء منه . وفيه يقول الصديق الذي يعيش في أوربا ( من سمات الحياة أنها تحيطنا بحدود لا نستطيع اختراقها إلا بالحيلة والصبر .. والحياة اليوم أكثر ما تكون كذلك .. ) .
أتاحت تقنية الرواية الرسائيلية للروائي ‘‘ سعود صادق حسن ’’ , أن يبث فيه أفكاره وفلسفته ورؤاه الحياتية , وأن تنداح بلغة تيارية عميقة وغير مصنوعة , لأن الرسائل بين الأصدقاء دائماً ما تكون أكثر حرية وأصدق مقالاً , لأن الصديق لا نكذب معه ولا نتجمل . فالأنا حرة , وليس هناك من يقيدها . وهذه الرواية أتاحت للكاتب سعود أن يظهر مهارته وبصمته الأسلوبية الخاصة به , حيث ضمن هذه اللغة حكماً وأمثالاً وفلسفة كامنة في اللغة . تحسها مسربلة فيها دون قصدية مصنوعة . ومنها قوله لصديقه في إحدى الرسائل { عليك بالوزن والتفريق بين قانون الأمر المعاش .. وتطلعات الخيال والفكرة .. إغفال حواجز الواقع الممكن لحساب الفكرة الجموح .. قد يورث خيبة أمل يصعب ابتلاعها .. العمل لإنماء المجتمع حديث الكثيرين .. غير أن عملية الإنماء سلحفائية البطء , عشوائية التقلب زئبقية التماسك .. فضع هذه الظواهر ملء عينيك , وإياك والتطرف يميناً أو يساراً .. فإن التطرف لا يورث سوى التعصب والتمزق .. ’’ .
كل رسالة تمثل حافزاً لأخرى غيرها , لتضيف للمتلقي الحكم والأمثال والمعلومة , والتجارب القوية في زمن جميل مضى ولن يتكرر . وكانت الرواية متماسكة ومتوازنة , أن الرسائل ذات أزمنة متقاربة وأمكنة متعددة بحيث تختلف رسائل كل شخصية من الأخرى . ولقد جعلت الندية الثقافية والتقارب المعرفي جعلت الرسائل تبتعد عن المناكفة والمغالطات المملة . وأتاحت المحطات السردية المختلفة باختلاف الأمكنة , أتاحت للرواية أن تبتعد عن الرتابة والتكرارية , وهذه المحطات تعود بالمرسل إلي أمكنة عاش وتنقل فيها , مثل ‘‘ مدني .. والخرطوم .. طنطا والزقاريق والإسكندرية , غير المحطات الخارجية مثل , إدنبرة , وبراغ , لندن ومانشيستر , شامبين والكويت ’’ . من ما جعل الماضي والحاضر في صلة وترابط قوي , وهو ما تتطلبه تقنيات كتابة الرسائل .
لعل هذه الرواية ذات الأيام المتألقة , تكشف بقوة ثقافة جيل السبعينات ذو النضج المعرفي والثقافي , حيث بقدر ما كان جاداً في التحصيل الأكاديمي , كان مهووساً بالتحصيل الثقافي , وكانت متعته الثقافة ولا شيء غيرها .
كانت اللغة هي البطلة وسيدة الموقف السردي في روية ‘‘ أيام متألقة ’’ , لأن الثقافة كانت هي الشخصية الأولى وقطب الرحى في هذه الرواية لذا كان يجب على اللغة أن تكون ذات ألق خاص , وقد أفلحت في ذلك . في فن الاسترجاع Flash back , وفي الحكي داخل الحكي , ثم الانتقال المكاني , بحيث أصبحت اللغة تترحل بحسب المكان والزمان في كتابة أشبه بأدب الرحلات . ثم الالتفات للمحطات العمرية المختلفة للمرسل إليه والمرسل . حيث كثافة السرد المتسارع حسب الموقف الذي يتطلب ذلك , فاللغة ليست مترهلة والرواية ذات معمارية وبنية قوية لعل الكاتب بروفيسور سعود صادق وهو أستاذ العمارة الشهير بالجامعات السودانية قد تأثرت الكتابة بالمهنة التي يمارسها . أفلحت اللغة في توظيف الفعل المضارع والذي يدفع السرد للأمام ,يقول في أحد المقاطع ‘‘ وما ألذ النوم تحت الأغطية .. تندس داخلها .. تدير المذياع .. تفتح الكتاب .. تدخل في نوبات متوالية من النوم والصحو ’’ كما أن للفعل الماضي دوره في السرد الماضوي , خاصة في الرسائل التي ما بين الأصدقاء والذين كان ماضيهم مشتركاً , ‘‘ ترافقنا في صبانا .. وشبابنا المبكر .. ذهبنا إلي نفس المدرسة .. صرنا أكثر قرباً في السنة الأخيرة .. دخنا السجائر .. أكلنا ورق شجر النيم المر لنخفي رائحته .. ارتدينا الملابس الشائعة آنذاك .. ’’ .
الرواية تستحق القراءة لأنها تسرد الزمن الجميل في تاريخنا الثقافي الحديث حيث جيل الكتاب والثقافة المكتسبة الجادة .