المحبوب عبد السلام يكتب: لقاء الدكتور غازي 

لقاء الدكتور غازي

  • بقلم: المحبوب عبد السلام

أخيرا نطق أحد رموز النخبة الإسلامية حديثاً يستحق التأمل والوقوف، الدكتور غازي صلاح الدين في لقائه مع الطاهر حسن التوم في ١٨ يونيو الجاري، ما زال هنالك نجم يلمع وثمة خيط فضي تحت الغمامة، لدهشة المشاهد استدعى الدكتور غازي هيجل وكارل ماركس، ونسب إليهما بحق أصول الحدة في الصراع السياسي المحتدم اللحظة في السودان، ما فارق المنطق في شيء عندما أشار إلى الديالكتيك الذي أبدعه هيجل، وحمله كارل ماركس لأقصى مدىً في الاقتصاد، وعزى إليه المواقف الحدية في السياسة السودانية التي تلامس العدم في مواقف اليسار السوداني. حَمّل الدكتور غازي تلك الحدة والحدية انحسار الاحترام في السياسة كالذي يحمل النخب السياسية إلى الإساءة إلى قادة القوات المسلحة، ورأى في ذلك أمراً عجباً، مؤكداً أن القوات المسلحة مباح في حقها النقد شأن كل مؤسسات الدولة، وأن الإصلاح واجب لها، ولكن تجريدها من الاحترام يهز التماسك في بلد يكابد الهشاشة خاصة ممن ترجو منهم الدفاع عن حدودها، ورأى أن أكبر الفشل أن توحى سياستك ومواقفك باستحالة التعايش مع الآخر المختلف، وأن تبلغ التناقضات حداً يبطل الديمقراطية، رغم إعجابه بالفكر الذي غير العالم والإشعاع المهول الذي كان للماركسية عندما تبنتها نظم وآمنت بها أحزاب وصار لها حواريون ودراويش، ومسّ كبد الحقيقية عندما أضاء العلاقة بين حاجة المجتمع للفكرة وإبداع المفكر الذي يأتي في موعده بالضبط، خاصةً وهو يقر ويسلم بأن المشهد السوداني لاسيما لدى الملايين الشابة الداخلة لتوها إلى التاريخ قد غيرت مجتمعات السودان إلى الأبد، وهي تنتظر الكلمة الملهمة الهادية.

لوهلة بدا حديث المفكر السياسي أقرب إلى خطاب المبشرين والرسل عندما يصدعون بنذارة يوم الدينونة واقتراب أهوال القيامة، الغريب أنه كان يتحدث عن الحرب  الروسية الأوكرانية الراهنة، ورغم تأكيده أن موعد القيامة ليس من اختصاصه، فقد حدثنا أن هاجس مس الزر النووي يراوده أيامه هذه، ولكن الذي يستيقنه هو أن العالم سيتبدل أو تبدل بالفعل، ويبصر وراء ذلك فرصة، رغم الشؤم الذي تنذر به عودة الايدلوجيا على نحوٍ لم يره طوال مسيرته السياسية، ولكن ربما أشار من طرفِ بعيد إلى أن عودة التوازن وانحسار القطب الواحد ربما يعيد شيئاً للشعوب المحرومة فماذا يخسر السجناء غير سجونهم.

ربما طال العهد بين الدكتور غازي وبين الساحة الداخلية السودانية بعد الثورة، فرأى في ورقة الحرية والتغيير حول ترتيبات إنهاء الانقلاب وثيقة مخدومة بعزم من قوى محلية وإقليمية ودولية، رغم أنها تكاد تشمل كل بداهات ورطيقيا ما بعد ٢٥ أكتوبر، فإذ اضطرت إكراهات السياسة قوى المجلس المركزي أن تكسر تابوهات الشارع، وتجلس إلى المكون العسكري، وأن تبحث لها عن أطروحة متكاملة تقنع بها الرأي العام السياسي والثوار. أثار الدكتور غازي في نقده لوثيقة إنهاء الانقلاب مسألة العمالة والوطنية، واعتبرها معياراً يقاس به تبدل القيم السياسية، فأضحت العمالة فخر ومباهاة بدلاً أن تكون تهمة يزور منها الوطني الخالص، وربما تكون هذه أكثر النقاط سياسوية في المقابلة وربما الإشارة الوحيدة العائدة إلى هواجس الإسلام السياسي، فحيث لا تزال الخطوط الفكرية والسياسية غائمة بين إدارة السياسة الخارجية بعزة واستقلال كما ينص دستور الإنقاذ وبين تبذل الإنقاذ في الاستكانة للأجنبي وتهافتها على إرضائه، وذلك باب مهم، ربما يُنتظر من الدكتور غازي أن يساهم فيه مساهمة جادة لما توفر له من إدارة ملفات مهمة وإدارة حوار ومفاوضات بالغة الخطر، وهو يكتب مذكراته عن سنواته الطويلة في الحكم.

كانت مسألة الأطروحة الإسلامية البديلة أو الفكر الإسلامية الذي يجتهد ليوائم بين الإسلام والحداثة في ظل تبدل أحوال السودان الهائل الذي اعترف به الدكتور غازي في وضوح وضمن عالم يتغير اليوم، وغداً هو أضعف حلقات المقابلة، رغم أن اللقاء كان بالأساس سياسي يجتهد مقدم البرنامج ليحصره في إطار أسئلته، ولا يجد الدكتور غازي في إجابته سبيلاً إلا طرح الأفكار وقراءة التاريخ.

قدم الدكتور غازي نقداً مهذباً، ولكن عميقاً للمقابلة التي أجراها ذات المحاور مع السيد علي كرتي، وكان ما بين السطور يقول في وضوح أنه لم يجد جديداً في المقابلة يوازي الركام الهائل الذي خلفه ثلاثون عاماً من الحكم، ووجه نقده بوضوح أيضا لفكرة التنظيم في جوهرها، وأن الأوفق الأول هو مخاطبة الآخر وحمل الطمأنينة إليه.

في أول اللقاء وآخره نهج الدكتور طريق تشاؤم العقل تفاؤل الإرادة، بوصفه مفكراً وسياسياً كان لا بد له من إعلاء رايات  الأمل، يقول ربما اتسع الفتق على الراتق ولكن أيّما رتق في أيّما جزء أو جزئية يرتق نسيجنا المجتمعي مفيد، كل فكرة مطلوبة وكل بذرة تبذر وكل فسيلةٍ تزرع، سبق للدكتور غازي أن كتب قبل سنوات مستشهداً بالأثر الأوربي لا تبخسوا الرحمات الصغيرة، ذات الكلمات التي سمعتها منذ حين من سياسيين في اليمين، وفي اليسار أننا بصدد بناء دولة، ونحتاج إلى سهم كل فرد أو جماعة في المهمة التاريخية، (ووقف) مستعجباً من وضوح الأولويات وارتباك المشهد، ومن المسارعة إلى العنف والبلاد أحوج ما تكون إلى السلام لإكمال واجبات الانتقال.

 

المحبوب عبد السلام

١٩ يونيو ٢٠٢٢