الشيخ حسن الترابي.. في عدة ميادين
بقلم : مصعب حسين منصور ( احرار )
لا أجيد الحديث عن السّير ولا عن الشخصيات، لكن ربما أجيد شيئاً من الحديث عن أطراف الأفكار التي يبثّها المفكرون، واتعلّق جداً بأبعادها التي تمثلُ شغفي المتجدد، وهكذا كان الشيخ حسن الترابي عليه رحمة الله من هاؤلاء، من هذا الطراز الذي أثار أفكاري ورسم في مخيّلتي أفقاً أصيلاً لم أعهد غيره من قبل.
كلّ مفكر يمتاز بخاصيّة من الخصائص وقد امتاز الترابي بلغته الأصولية البالغة في الجمال، التي لا تجد لها نظيراً إلا عند قلّة قليلة من السابقين، بل أخذت تلك اللغة من بلاغة السابقين دون أن تنسجن في عالمهم، وأخذ صاحبها من تجليات عصره الذي خالطه دون أن تنبتر عن أصول اللغة في حديقة الوحي.
لم تكن كثيراً من أفكار الترابي منسوجة لتتوافق مع قوالب الناس، لكنه خطها لتساير ركب الوحي الخالد مجرداً لها من غواشي الزمان، فهو لا يعطي التاريخ سلطةً فائضة بل يراه بمنظار الوحي ولا يرى الوحي بمنظار التاريخ، وقد سعى مجاهداً في فكره أن يرسخ ذلك في جميع كتاباته.
أذكر مقولةً ظلّت عالقةً في ذهني منذ اليوم الأول الذي لمحتها فيه في مقدمة كتابه – السياسة والحكم – هذه المقولة تبيّن على وجه الدقة رؤية الترابي بالنسبة لقضيّة التجديد وكيف أنه يسحب السلطة الفائضة في الإرث ويثبت جدوى الأصل الذي يغطيه الإرث فيقول:( وينبغي ألا تحجر الخلفَ المنقولات التقليدية التي تتراكم عليهم عن أن يتيمّموا الأصول، والّا يُقعدهم التعويلُ عليها عن الإجتهاد في ضوء البلاءات الجديدة ووجوه الرأي النابتة، بل أن تنشرح صدورهم بالاجتهاد المتجدد الممتد الذي لا تنسد أبوابه وتنفتح نفوسهم من ركام العصبية الموروثة مذهبية فقهية أو نحليّة شيعةً وسنة. وتعاقب التاريخ امتحان لكل أمة إما زادها علماً وحكمة فرقيت أو رهنها جموداً وعصبية فهوت).
الدارس المتجرد لما كتبه الترابي يرى في قلمه روحاً ليست عند سائر الناس، يرى في قلمه لمسة القرآن ومصطلح الوحي، فلا يكاد يخلو سطر مما كتب من كلمات تحمل في مدلولها لغة الوحي، كانه يخط وفقاً لما عرفه من تجربة القرآن. ومن أراد أن يلمس ذلك لن يلمس غيره في كتاباته.
ستكون هذه الجولة في هذا المقال طوافاً عاجلاً مع بعض الأفكار والمفاهيم التي خاض فيها الدكتور الترابي، وهي إشارات محدودة ومعالم عريضة لم يتم عرضها تفصيلاً، بل جاءت ذكراها عابرة في ذكرى وفاته الخامسة، تتلمّس حروف الترابي المجدد في أصالة الحرف وصدق المقصد.
أولاً: مفهوم الهجرة:
يرى الهجرة الترابي بمفهومها القرآني الأصيل الذي يعني المحافظة على عقدة الإيمان وميثاقه من الإنفراط فيقول في ورقة كتبها عن الجهاد والحياة العامة :” إن النفوس المؤمنة إذا لم تبلغ قدر الجماعة المتمايزة في كيان منتظم إنما عليهم أن يصبروا ولو أوذوا في الله، فإذا شقّ عليهم الصبر أو أصبحوا عرضةً للهلاك وعجزوا أن يدفع كل عن نفسه فإن عليهم أن يهاجروا إلى مهجر آمن يحفظ العقيدة أو مهجر حصين يتمكنون فيه ويقيمون الشرع، وليس للمؤمنين أن يتورطوا في الفتنة تعذراً بالضعف ﴿إِنَّ الَّذينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمي أَنفُسِهِم قالوا فيمَ كُنتُم قالوا كُنّا مُستَضعَفينَ فِي الأَرضِ قالوا أَلَم تَكُن أَرضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِروا فيها فَأُولئِكَ مَأواهُم جَهَنَّمُ وَساءَت مَصيرًا﴾ [النساء: ٩٧].
ثانياً: مفهوم الإيمان:
أما عن مفهوم الإيمان فقد برع الترابي في سبْر غماره وغاص بعيداً في خوالج الذات الإنسانية وعكس رؤية الوحي القرآني بالنسبة لقضية الإيمان، وقد كان أشهر ما كتبه رحمة الله عليه عن هذا كتابه العريض الفسيح – الإيمان.. أثره في حياة الإنسان – فكيف أسس له من الوحي ؟
يقول الترابي في كتاب الإيمان :” وإذا رسخ الإيمان بالآخرة والرجاءُ في نعيمها والحذر من نعيم الدنيا استقر المرء على نهجٍ واحد واضطرد عمله على نمط واحد وبلغ أبعد الأشواط في مسعاه لأنه لا يتوقف ولا يمل. اما إذا ركن الانسان الى آمال الدنيا فإنه معرض في كلّ حال للإرتكاس والإنتكاس من ضرّ يصيبه فيوئسه او نعماء تبطره فتثقله وتلهه، ثمّ يوهمه الشيطان شتى الأوهام فيحسب ان الخير مستحق محتكر له بقدرته وعلمه ناسياً ان احوال الدنيا اقدار يداولها الله باسباب حكيمة دقيقة، ويمنيه الأماني فيظن الخير مضموناً له على وجه الخلود والحظ مواتياً له في مستقبله كما واتاه في حاضره، وهكذا تؤدي به النعمة الى الضلال والإستغناء عن مواصلة العمل الصالح. ذلك هو شأن الإنسان إذا اعوزه الإيمان وفتنة النعيم : ﴿… وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيطانَ وَلِيًّا مِن دونِ اللَّهِ فَقَد خَسِرَ خُسرانًا مُبينًا يَعِدُهُم وَيُمَنّيهِم وَما يَعِدُهُمُ الشَّيطانُ إِلّا غُرورًا﴾ [النساء: ١١٩-١٢٠].
ثم يتحدث الدكتور عن المؤمن وأنه لا يسلمُ من دواعي الشيطان ودواعي الغرور، تأتيه من جرّاء مواصلته في الطاعة فيقول:” وقد لا يسلم المؤمن من بعض داوعي الغرور تجره عليه نفس اعمال الطاعة التي يتعهدها، فقد يخيّل إليه أنه قد أوفى العمل حقه وأتمّ الإحسان وأنه مستغن بعدها عن الدأب والسعي. ولكنّ دواعي الإيمان تذكره دائماً بأنّ نعمة الله عليه أجل من أن تحصى وشكره أكبر من أن يوفى، فينهض مستأنفاً سعيداً دأئباً مجّداً ليفي بأقصى ما يستطيع. فإذا صدق حبه لله تعاظم التذاذه بالعمل كلما تعاظم جهده المبذول، وما توسوس له النفس بأن قد كدّس من الأجور ما يغنيه إلا دفعه الحذر من عذاب الله. ولا يأمن القاعد من عذاب الله لان الإنسان ما يكف عن فعل الحسنات إلا كان أقرب إلى اكتساب السيئات التي تعقبه حطّاً”.
ثالثاً: حول شهوات ما بعد الثورات :
إن الثورات كثيراً ما تمتطيها قوى منقطعة الأفق إلا من قليلٍ من حشو الشعارات التي ما تلبث تلك القوى الصاعدة للسلطة أن تصِل إليها إبان الحالة الملحمية للثورة حتى تبدأ في شهوات السلطة معتركة في التشبث بها، وقد تحدث الترابي بعمق عن ما يشوب الثورات إبّان الحالات الملحمية لها فقال في كتابه السياسة والحكم:” وفتنة السلطة من عواقب الثورات، تصيب ثواراً كانوا مظلومين محرومين من ممارستها في عهد الجبروت لم يعهدوا فيه تجربة وشركة فيها بل كانت أشواقهم تنحو إليها هدفاً لكن بصفة أصلح، وهم ساقوا بذلك الجماهير ولم ينزلوا عليهم بهدي مفصّل للصلاح إلا شعارات عامة، فما يركب هؤلاء السلطة التي كانوا براءً أطهاراً من فتنتها، إلا ذاقوا متاعها ولذتها الجديدة، وزيّن لهم الشيطان حبها إذ ألفى في قلوبهم ثغوراً لم تتحصن بالمران على مقاومة شهوتها. وتلوح عندئذ ذرائع واقعية تأميناً للسلطة المكتسبة باستظهار القوى التي ولدتها لتحفظ المواقع فيها للمتمكنين الجدد ولا تتزلزل خشية الارتداد إلى الأعقاب التي ثاروا عليها”.
رابعاً: الترابي.. رباط المحراب والبرلمان:
لم يكن الترابي من مفكري النظر المجرد، ولا من أهل السجادة المنقطعة عن سيف القتال، ولم يكن زاهداً بمعنى الإنزواء، بل كان جهده دائماً أن يوحد الحياة العامة مع الخاصة ويجعل وجهتهما إلى الله، جاعلاً نُصب عينيه الآية الكريمة ﴿قُل إِنَّ صَلاتي وَنُسُكي وَمَحيايَ وَمَماتي لِلَّهِ رَبِّ العالَمينَ﴾ [الأنعام: ١٦٢].
ولذلك كان دائماً يخوض ميدان السياسة داخلياً وخارجياً، ولم يكن يؤمن بمجرد التفكير بل كان يرى الحركة والتفاعل هما أساس النضوج لكل فكرة بشريّة، وكان لا يتجنب خوض هذه الميادين خشية الخطأ، فهو يؤمن أن الخطأ دأب كلّ عامل وليس دأبُ الخاملين.
أما نماذج العلمنة وأن يترك شأن السلطان لأهواء الناس يعبثون فيه كيف شاءوا فذلك ما كان يقاتل في سبيل هزيمته ودحضه، وكان يقول في كتابه السياسة والحكم :”والفساد البالغ في منطق عزل الدين عن السياسة وأنه لا حكم لله إلا في الأخلاقيات، أن الألوهية إما أن تنكر مطلقاً وإما أن يعرف الله كامل العلم والحكمة مطلق التصريف والتكليف لعباده، ولا يمكن عقلا أن يؤمن احد بالله حكيماً في تعليم عباده طقوس العبادة له بالشعائر أو معاملاتهم بالأخلاق وهو لا يعلم كيف يهديهم في الحكم والمعاش العام وكيف يتعاملون بالسلطة والقوة، أو أنه – تعالى – يعلم ذلك لكنه يترك الناس سدى، ورسالاته تتنزل، يبلغها مرسلون لكنها لا تهدي”.
كان هذا طوافاً سريعاً مع بعض معالم الفكر التي كتبها الترابي، كتبها طالب علم صغير لا زال يبحث عن ما يُشكل عليه وعلى أمته من واقعها الإبتلائي ليستشرف مستقبلها عسى أن يكون متحرراً من مُثقلاته السلبية ناهضاً ببصائر الوحي والعمل واستئناف رحلة العمارة البشرية وفقاً لقيم السماء لا موازين الأرض المحدودة، ولا وفقاً لمثقلات المعارف الروحية المجردة التي تنؤ عن الواقع خائفة منه او من تحدياته ومآسيه.
ـــ
٥/آزار/٢٠٢١م – مصعب حسين احرار