صنّاجة كردفان ! الشيخ نورين المزمار الداوودي

بقلم : د. أسامة الأشقر

إذا ارتحلتَ صوب خلوات الصحراء المدارية، واسترحتَ بين كثبانها المرصوصة حول واحاتها، فلابد أن تسمع صوتاً نديّاً يملأ عليك أذنك المصغية إلى الفضاء الأسفر ، تتحرك لها سيقان المرْخ الطويلة، وتتخشّع لها أوراق لالُوب الهِجْلِيج فتهتز وتتطامن…
هذا الصوت تسمعه في صحارى جنوب المغرب والجزائر وليبيا، ويزداد قوى لدى الملثمين الطوارق في مالي وتشاد والنيجر ويصل بعد ذلك إلى صحارى السودان وديار النوبة في نظام واحد … .
هذا الصوت على سلّم خماسيّ يَصْدر من القرار العميق، ويمتاز بقوةٍ ناتجة عن شدة الاعتماد على المخارج الصوتية، ونقاءٍ كنقاء هواء الصحراء الغريبة عن الناس، فكأن الصوت نحاسٌ خالص يرنّ بإطراقة نحاسة أخرى عليه فتهتز لها موجات الهواء، وتحمله إليك، وتصبّه صبّاً في أذنيك، فتسمع رنيناً لم تألفه من قبلُ.
ومع أن هذا الصوت يبدو بدائيّ التكوين يصلح للتعليم والتمرين ليس فيه درجتا السلم السباعي التطريبية المحترفة إلا أن الحناجر الصنّاجة تحوله إلى نَبْرٍ صوتيٍّ متينِ القَوام شديد السبك ملتحم الأطراف.
على امتداد هذه الصحارى الإفريقية بقيت رواية الدوري عن أبي عمرو البصريّ حاضرة بقوة انتقلت من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، وظلّت تحافظ على ألحانها الأولى حتى إنها انتقلت إلى ثقافة الناس السماعية فلوّنت ألحانهم الشعبية، وتغنّت بها في أشعارها وأبيات الدوبيت السارحة فيها.
هو سلمّ خماسيّ معروف قديماً، بل إنه ما زال معروفاً في أصوات الغابات الإندونيسية، وصحارى الصين ومنغوليا، ولكنه بالقرآن يصبح أندَى وأعمق بعد أن يصطبغ بقوانين التجويد التي تزيّن التلاوة وتمنحها ضوابطها الإيقاعية في تآلف الحروف .
وكان يطيب للشيخ عبد الجليل النذير الكاروري أن يسميه المقام الكردفانيّ، وكانت تسميةً لطيفة رغم أن مدلول المقام في الاصطلاح يختلف عن ذلك، إلا أنه يشبهه في منتهى الأداء لا مدخله، وإنما نسبه إلى كردفان لأن أكثر القارئين به هم المتخرجون في الواحات الخضراء في صحراء كردفان ولاسيما حول بارة وخُرْسي التي أقيمت فيها قديماً مملكة العباسيين الفارين من مصر زمان المماليك.
وكنتُ أسمع هذا الصوت من القارئ الذي كان يصاحب أستاذنا البروفيسور عبد الله الطيب رئيس مجمع اللغة العربية في السودان رحمه الله وهو الشيخ الراحل صديق أحمد حمدون ، وأسمعه بصدى أقوى لدى الشيخ الزين محمد أحمد، وبصوت نديّ محكم من الشيخ نورين محمد صديق إمام جامع النور في كافوري ببحري الذي ارتحل عنا وهو في ريعان صوته وشبابه فاهتزت لفراق هذا المزمار الداوودي أركان السودان كلها، والتفّت حول صوته الصادح بالقرآن وأصوات إخوانه القرّاء الذين ارتحلوا معه